الرئيسية
قراءة في قصيدة “رهن المنية” لشاعر الأمة محمد ثابت بعنوان “وجع سرمدي” بقلم الشاعرة التونسية عيادة جابر
شاعر الأمة محمد ثابت

قراءة في قصيدة “رهن المنية” لشاعر الأمة محمد ثابت بعنوان “وجع سرمدي”
بقلم الشاعرة التونسية عيادة جابر
—–
هي قصيدة تتوشح السواد لكنها لا تكسر الفؤاد. انها مشحونة ألما وغضبا حتى أن قراءة سريعة لها تجعلنا نصنفها في خانة الوجدانية المتألمة المتشائمة لكنها الثائرة أيضا على العيوب البشرية وما تضمره هذه الذات الأمارة بالسوء من وحشية تجلت في أفعال الانسان البشعة.
ان القصيدة كما يوحي به العنوان تقوم على التألم والتوجع والتفجع. لكن هذا الألم لا يخص الشاعر المتكلم المتالم وحده بل هو شعور مشترك عام يؤكده استعمال عبارة”كل من فيها” وضمير المتكلم الجمع “نحن”. وما دام هذا الألم مشتركا فالسبب هو أيضا مشترك وواحد. “انها الدنيا الفتية”.
المعاناة اذن هي معاناة وجودية جمعية تخص الانسانية جمعاء.
وهكذا يخرج الشاعر من الفردية في الرومانسية المتألمة التي يبث من خلالها الشاعر عادة معاناته النفسية وشكواه من كل ما يربك حياته ويدمر أحلامه ليتحدث عن وجع انساني أزلي شامل بضمير الجمع، ضمير الانسان، ضمير الأمة وهو شاعر الأمة المسكون باستمرار بهاجس الأمة.
المتهم هنا هي الدنيا وقد انتقى لها الشاعر من الصفات”الفتية، الحية، الشقية” وهي صفات تجمع بين القوة والجبروت والمخاتلة والعبث.
ان هذه النظرة العميقة لماهية الدنيا وحقيقتها وفعلها في الانسان حيث حولت ”أحلامه أوهاما وواقعه بلية” جعلت العلاقة بينهما أي الانسان والدنيا في نظر الشاعر علاقة عدائية، علاقة صراع أزلي عبثي تكون الغلبة فيه للدنيا. فقد استعمل معجما لغويا يحيل على الفناء “تغرس الأنياب فينا، تذبح الروح الأبية، نصحو في البلية”.
وهكذا بدا الشاعر متألما متشائما فهيمن على القصيدة التفجع والتأوه والشكوى للأم التي يمكن أن يتعرى أمامها الابن دونما خجل ويبثها كل لواعج قلبه وعقله وما يسكنه من أوجاع لعل الألم يخف.
لذا انبنى القسم الثاني من القصيدة على عبارة التأوه “اه” المتكررة وهو يخاطب أمه ولكن في الان نفسه يكشف عن السبب الحقيقي للألم والمعاناة في الدنيا مصرحا أنه الانسان نفسه فنستحضر معه هنا ما قاله الامام الشافعي يوما:
نعيب زماننا والعيب فينا. /. وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب. /. ولو نطق الزمان لنا هجانا
فالشاعر اذن يلوم الانسان على توحشه وطغيانه وتجبره الذي تجلى حسب هذه القصيدة في الغش والخداع والمراوغة والنفاق والتمييز العنصري مما أنتج حروبا أزلية ووجعا سرمديا لم يخف يوما بل هو الان وهنا أشد وأقسى ولعل ما يحدث في غزة من بشاعة المشاهد يفوق الوصف والخيال بل يجعلنا كما تقول أحلام مستغانمي نعيش مشاعر جديدة لا نعرف لها اسما.
لقد استنفدنا اللغة،وبعد العزيمة والنكسة والنكبة والمؤامرة نحتاج الى كلمة جديدة أكبر من هذه كلها لوصف ماحل بنا.
لقد وعى الشاعر جيدا أن بشاعة الحروب تقود الانسانية الى هذه الحالة من اليأس والاحباط والتشاؤم فيختم قصيدته بنظرة سوداوية وفقدان لكل أمل له في مستقبل أفضل
للانسانية عندما نفى أي سلام على الأرض وعمم المنية على الجميع.
لكن الشاعر محمد ثابت المتشبع بالقيم الانسانية النبيلة ذا الحس المرهف، في هذه القصيدة تقطر مشاعره ألما ووجعا وعجزا عن تحمل بشاعة أفعال الانسان الخالية من الانسانية فيخرج صوته أنينا وحرفه نحيبا ويأسا واستسلاما لعبثية الحياة فكأن الحرف صار يكتبه وفي ذاك ارتقاء الى أعلى مراتب الألم. لكنه يترجم أيضا عن غضب دفين وثورة متأججة في النفس ورغبة في الانعتاق وكسر سلاسل الضيق واليأس فلم يجد أفضل من حضن الأم ليبثها شكواه وحزنه وتبرمه
حتى تكون نافذة الأمل والصحوة واستعادة التوازن. فكأن الشاعر بذلك واعتمادا على رمزية الأم وما تختزله من صفات الرقة والحب والعاطفة السامية الجياشة يخاطب في الانسان انسانيته ويدعوه الى استعادتها لأنها السبيل الوحيد لنحيى بسلام فردي وجمعي وبهذا يكون الشاعر وفيا للوظيفة الأسساسية للشعر وهي تأصيل القيم النبيلة وترذيل السيء. وهذا في تقديري ما يجعل حرف الشاعر محمد ثابت في شعره يعانق الروعة والابداع والامتاع.
—
بقلم الشاعرة والناقدة التونسية الكبيرة
عيادة جابر
—
كُـلُّـنَـا رَهْـنُ المَـنِـيَّـةْ/ قَصِيـدَةٌ لشـاعِـرِ الأمة مُحَمَّد ثـَابـِت
—————————–
إِنـَّهَـا الـدُّنـْيَـا الـفَـتِـيَّـةْ
كُـلُّ مَـنْ فِـيـهَـا ضَحِـيَّـةْ
نـَرْسُـمُ الأَحْـلاَمَ وَهْـمَـاً
ثـُمَّ نـَصْحُـو فِـي الـبَـلِـيَّـةْ
نـَرْتـَجِـي مِـنْـهَـا حَـنَـانـَاً
كُـلَّ صُـبْـحٍ وَعَشِـيَّـةْ
مَـنْ يـَرَاهَـا فِـي ثِـيَـابِ العُـرْ
سِ تـَلْـهُـو مِـثْـلَ حَـيَّـةْ
تـَغْـرِسُ الأَنـْيَـابَ فِـيـنَـا
تـَذْبـَحُ الـرُّوحَ الأَبـِيَّـةْ
هَـذِهِ دُنـْيَـا الأَفَـاعِـي
هَـذِهِ الـدُّنـْيَـا الشَّـقِـيَّـةْ
آهِ لَـوْ تـَدْرِيـنَ أُمِّـي
بـِالمُـعَـانـَاةِ الشَّـجِـيَّـةْ
بـِحَـيَـاةٍ كُـلُّـهَـا غِـشٌّ
وَقَـتْـلٌ بـِالهُـوِيـَّةْ
آهٍ لَـوْ تـَدْرِيـنَ أُمِّـي
بـِاللَّـيَـالِـي السَّـرْمَـدِيـَّةْ
كُـلُّ مَـنْ فِـي الكَـوْنِ يـَبْـكِـي
بـِدُمُـوعٍ مَـقْـدِسِـيّةْ
مَـا عَـلَـى الأَرْضِ سَـلاَمٌ
كُـلُّـنَـا رَهْـنُ المَـنِـيَّـةْ
قصيدة لشاعر الأمة
محمد ثابت
مؤسس شعبة شعر الف
صحى
باتحاد كتاب مصر
مؤسس نوادي الأدب بإقليم شمال الصعيد الثقافي


