مقالات

العربية في يومها العالمي: لغة جديدة يصنعها الشباب، وكلّنا أمل !

د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان

في اليوم العالمي للغة العربية، لا يُحتفل فقط بتاريخ طويل ومشرف، بل أيضًا بالحاضر الذي يفرض تحديات كبيرة على هذه اللغة العريقة، والتي قد تبدو وكأنها تواجه تهديدًا غير مسبوق في ظل عصر رقمي متسارع. ولكن هل هذه التغيرات التي نشهدها اليوم هي تهديد فعلاً أم بداية لثورة لغوية تواكب العصر؟ هل نحن بصدد لغة جديدة ستولد من رحم التحديات أم أن ما يحدث هو مجرد “موت بطيء” للعربية؟ تلك هي الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات حاسمة.

الشباب العربي يصنع لغته: هل هو تهديد أم تطور طبيعي؟

الشباب العربي اليوم ليسوا مجرد مستخدمين سلبيين للغة، بل هم من يصنعون قواعدها الجديدة. في عالم يزدحم بسرعة التقنية والتواصل الرقمي، أصبح الشباب هم من يقودون التغيير في اللغة العربية. عبر منصات مثل “تويتر” و”إنستغرام” و”تيك توك”، بدأوا في استخدام اللغة بطريقة غير تقليدية، وابتكروا مصطلحات جديدة تمزج بين العامية والفصحى، بل وقد تكون بعض هذه المصطلحات صعبة الفهم على الأجيال الأكبر. هل هذه هي بداية لغة جديدة تنبثق من رحم العصر الرقمي؟ أم أن هذا “الخلط” هو بداية تدمير الهوية اللغوية؟

مثال: ما يُسمى بـ “الفرانكو أراب”، الذي يمزج بين العربية والإنجليزية أو الفرنسية، هو نموذج على تلك التحولات. هل هو علامة على انفتاح اللغة العربية على العولمة أم بداية لتمزق هويتها؟ الأجيال الجديدة تستخدم كلمات مثل “هاشتاغ” و”إيموجي” وتوظفها في الحديث اليومي، وكأنها جزء من القاموس اللغوي العربي. أليس هذا نوعًا من الابتكار اللغوي أم أنه ضياع للهوية؟

من منظور علم النفس: اللغة هي مرآة الهوية

من منظور علم النفس الاجتماعي، تُعتبر اللغة وسيلة للتعبير عن الذات وبناء الهوية. في هذا العصر، لم تعد اللغة مجرد أداة تواصل، بل أداة للتفاعل الاجتماعي وبناء الانتماء. الشباب اليوم، عبر استخدامهم للغة في الفضاء الرقمي، يشكلون هويتهم الرقمية بلغة جديدة. هذه اللغة لا تُنشىء فقط تفاعلات اجتماعية جديدة، بل تُبرز أيضًا رغبتهم في الانفصال عن القوالب التقليدية التي تفرضها الأجيال السابقة. هل هذا التغيير طبيعي؟ أم أن في استخدام هذه اللغة “الممزوجة” استنقاص لهيبة اللغة العربية؟

مثال: في علم النفس، هناك من يعتقد أن اللغة هي جزء من الذاكرة الجماعية، وأن كل تغيير فيها يعكس تحولات أعمق في الشخصية الجماعية. بينما يرى آخرون أن هذه التحولات هي مجرد رد فعل على الضغوط الثقافية والتكنولوجية الحديثة، ويمكن أن تؤدي إلى فقدان التواصل بين الأجيال.

من منظور علم الاجتماع: العولمة وتغير اللغة العربية

في علم الاجتماع، يُعتبر أن اللغة هي مرآة للواقع الاجتماعي. فالتغيرات الاجتماعية، مثل العولمة، والتحولات الرقمية، تؤدي إلى تغييرات عميقة في اللغة. الشباب العربي اليوم يواجهون تأثيرات متعددة من ثقافات أجنبية، ما يدفعهم لاستخدام لغة هجينة تجمع بين العربية واللغات الأجنبية. هل هذا التفاعل اللغوي هو علامة على تطور اللغة؟ أم أنه بداية لتآكل لعناصر الثقافة العربية الأصيلة؟

مثال: في المجتمعات الحضرية، نجد أن الكلمات العربية المختلطة مع الإنجليزية أو الفرنسية أصبحت جزءًا من الحياة اليومية. هل هذه ظاهرة صحية تعكس التفاعل بين الثقافات، أم أنها بداية لتآكل هويتنا اللغوية؟ هل العربية التي تدمج مصطلحات مثل “موبايل” و”كليك” و”لايك” تستطيع الحفاظ على هويتها في ظل هذه الضغوط؟

من منظور الألسنية: هل يجب أن نعيد كتابة قواعد اللغة؟

الألسنية، وهي علم اللغة، تُظهر أن التغيرات في القواعد النحوية والمفردات ليست نتيجة لخطأ، بل هي جزء من التطور الطبيعي للغة. ومع ازدياد استخدام التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، تزداد اللغة العربية مرونة، حيث يتم تبني كلمات وعبارات جديدة بسرعة. لكن هل هذا يعني أن اللغة العربية على أعتاب تغييرات جذرية ستؤدي إلى إعادة كتابة قواعدها؟ أم أن هناك خطرًا من أن تتحول إلى لغة لا يمكن التعرف عليها؟

مثال: التغيرات في الأفعال مثل “كنتُ” التي أصبحت تُقال في شكل “أنا كنت” أكثر شيوعًا، هي دلالة على تحولات لغوية متسارعة. هذه التغيرات في بنية اللغة قد تكون مؤشراً على بداية لأساليب لغوية جديدة، ولكن هل سنشهد قريبًا عودة إلى قواعد أكثر تشددًا تعكس “الفصحى التقليدية”؟

الحياة تفرض المسار: هل اللغة العربية في طريقها للتجدد؟

الحقيقة أن الحياة هي التي تفرض المسار، واللغة العربية ليست استثناءً من هذه القاعدة. بينما قد نرى في بعض هذه التغيرات تهديدًا لثراء لغتنا، فإننا في الواقع نشهد عملية تطور حيوية. فكما أن كل جيل يولد ويعيد تشكيل واقع الحياة من خلال أدواته الخاصة، فإن كل جيل يُعيد تشكيل لغته. وفي النهاية، ستكون هذه اللغة هي التي ستحدد قواعدها وفقًا للواقع الذي يصنعه الناس. الحياة لا تقف، واللغة العربية في رحلة تجدد لا نهاية لها.

إن التحولات التي تشهدها اللغة العربية اليوم، على الرغم من أنها قد تبدو مربكة للبعض، إلا أنها ضرورية لبقاء اللغة واستمرارها في العصر الحديث. هذه التغيرات قد تخلق لغة جديدة، أكثر مرونة وأكثر قدرة على التعبير عن الجيل الرقمي الذي يعيش في عالم معقد وسريع التغير. لكن في النهاية، قد تكون هذه التحولات هي السبيل الوحيد لاستمرار اللغة في التأثير والانتشار، لتظل العربية لغة حية تُواكب العصر وتستوعب كل جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق