مكتبة الأدب العربي و العالمي
قصّة ” الوحش” محمد بكرية.
هذا ما حدثَ ، في إحدى زياراتي له برفقة أصدقاء مشتركين في مخبزِه القديم , لم نجدْه عاديّا ولا طبيعيّا ، فقد كانت فرائصُه ترتعد ،ظنّا أنه مصابّ ببردٍ شديد ، فشُرْنا عليه بأنْ يقيَ نفسه بلباسٍ ثقيل، أعدَدْنا له كوبًا من الشاي وتحلّقْنا حوله على مقاعد القشّ المغطّاه بقطَع الصوف ، سامرناه حتى ساعة متأخٌرة ، لكنّ الغريبَ في الأمر ، انّ عمّي”أبو سليمان” وعلى غير عادتِه لمْ يبادلْنا الحديثَ طيلة اللّيل ولم يضحكْ على ما تندّرْنا به ، ولم يعلّقْ أبدًا على قصّة سردْناها أو حادثة قصَصْناها، حتى أنّه لم يحتسِ كوبَ الشاي رغم إلحاحِنا عليه.
أمرٌ غريبٌ ومستهجن .
تلاكزْنا نحن الأربعةُ أصدقاء وهمَمْنا بالانصراف بعدما حيّيْناه وأوصيناه بنفسه خيرًا.
صباح اليوم التالي مررْتُ بالمخبز لأطمئنّ عليه، وجدتُه مضطجعا على ظهره وقد لفّ جسمَه الناحلَ ببطّانية وبعضِ قطعِ القماش .
بعد التحيّةِ الصباحية وبعضِ المُزاح سألتُه عن حاله ، نظرَ إليّ بحزنٍ وقال:
” الوحش يا ولدي ، الوحش”
أيُّ وحش يا عمّ أبو سليمان؟؟ سألتُه .
أعادَ نفسَ الكلام:
“الوحش قريب يا ولدي، قريب”.
بلّغْ الشباب أن يستعدوا لقتلِه على باب القرية قبل أن يدخلَها ، يلّا يا حبيبي ، يلّا توكّلْ على الله ما في وقت”.
ثمّ أدارَ رأسه وعادَ إلى حالتِه الأولى، شاخصًا في سقفِ المخبز القديم، ساهمًا كأنّه يؤدي صلاة أو يستعدُّ لها.
أحضرتُ الطبيبَ بسرعة، وبعد أنْ فحصَه قالَ: لمْ أجدْ فيه علّةً، لكن يساورني الشّك أنه مكتئبٌ لسبب لمْ أنجحْ بتشخيصه، على أيّ حال ، أحضِرْ له هذه الأقراص وسنرى بعد يومين كيف ستبدو حالتُه،
علمَ أهلُ القرية بحالة العمّ “أبو سليمان” هرعوا إليه فرادى وزرافات ،شيبًا وشبّانا. لأنه أيقونة القرية وبركتُها ، والدُ الجميع ومحبوبُهم ، إنْ مسّه سوء تداعى الجميعُ له حزْنا، كيفَ لا يهبّون أليه وهو الدي يخافُ على بلده وأهلِها كخوفه على نفسه وأكثر، حنونٌ ، عطوفٌ، على الكبير والصغير ، لا تغفُ له عينٌ إذا جفا النومُ عينَ أحد من أهل القرية من همّ أو ألم، يحزنُ إذا ما اعترى أحدَنا الحزن، ويطيرُ فرَحًا كلّما فرِحنا، صديقٌ الأمل ،لا عهدَ له بيأسٍ ولا كلَل، والعمّ “أبو سليمان” وَرِعٌ ،تقيٌ، حتى قيل بأنّه تنبّأ ولا يزالُ بأمورٍ خافية على غيرِه،
فقد نبّه الناس في شتاء سالفٍ من ثلوجٍ ستسقط وتغطّى القرية حتى نوافذِ بيوتِها، وفعلًا هذا ما حدث ، في ذلك العام كما حدّثني والدي رحمه الله ، فقد استفاقَ أهلُ القرية على غطاء أبيض قد كسا الأرض كلّها، كسّر الشجر وأتلفَ المزروعات، وفي ذاك العام نفَقَتْ مواشي كثيرة بسبب البرد القارس وشحّ الكلأ.
كما كانَ العمّ “أبو سليمان” يُبشّرُ بمواسم الزيتون المباركة، ويخبرُ الحواملَ ما في بطونِها إنْ سألْنه عن ذلك وألْحَحْنَ بالسؤال، صارَ الناس يثقون بكلّ نبوءاته ويأخذونها على محمَل الجدّ،
هو ليس نبيّا ،لكنّه ورعًا وليٌا.
“الوحش يا ولدي احذروا الوحش”
آخر ما نطقَ به ثمّ ذوَتْ جفونُه.
هدوء يلفّّ القرية، رهبةٌ وخوفٌ من هذه الوصيّة،
“احذروا الوحش”
ولأنّ العمّ أبو سليمان أصابَ في كلّ رؤاه سابقًا، بدأ هاجس الوحش يعشّشُ في وجدان كلّ شخص في القرية، حتى تغيّر سلوكُهم اليومي بسرعة خوفًا من الوحش. وبدون تنسيقٍ مسبق، خرجتْ مجموعةٌ من الرجال إلى حدود القرية الجنوبية ومجموعةٌ أخرى إلى حدودها الشمالية ثمّ الشرقيّة والغربيّه يحملون فؤوسَهم وأدواتٍ مختلفة استعدادًا لملاقاة الوحش الغريب ، مجهول الشكل والهيئة الذي سيصلُ ليلتهم الجميع.
ركضتُ خلفهم وهكذا انضمّ العشرات إليّ دون أن نعلمَ إلى أين نحنُ ذاهبون، متيقنين أنّنا نقومُ بواجبٍ جبّار دفاعا عن البلدة وأهلِها.
صاح شيخُ القرية ” الشيخ عطالله” من على منبرِ المسجد:
يأمرُ الجميع بأنْ يتزوّدوا بكلّ ما يملكون من أدوات، فؤوس، معاول،عصيّ وسلاح لمن يملكُه.
دبَّ نشاطٌ متوتّر في أزقة القرية، الشباب ينادون بعضهم بعضًا
يساعدون النساء في نقلِ الأطفال إلى كنيسة اللاتين بأمرٍ من أبونا “الخوري جريس”.
شبانٌ اخرون يحملون على أكتافهم أكياسَ الحنطة ليحفظوها في المسجد..
أمٌ تنادي أبناءها، والدٌ يستنهض جيرانه،
عجائزُ تتنقّل بين الأزقة لمتابعة هذا التحرّك الغريب .
قد هاجَتْ قريتُنا الصغيرة، هبّ أبناؤها عن بِكرة أبيهم ، فالوحشُ قد يصلُ في أيّ وقت ويباغت الجميع.
ظلّ أهلُ القرية مستنفرين أسبوعًا كاملًا
لدرء هذا الخطر، فالهمّ واحد والخطرُ واحد يهدّدُ الجميع.
لم تعد تفرّق بين الأصدقاء والأعداء، كلّهم يدٌ واحدة، ولم تعد تفرّق بين قريب وبعيد، كلّهم متقاربون، يتقاسمون طعامهم، يساعدون كبارهم، يسهرون على راحة أطفالهم، شيخٌ وراهب، مؤمنٌ وجاحد.
طالتْ حالةُ الاستنفار، وفي كلّ زيارة للعمّ “أبو سليمان “، كان يستفسرُ عن أحوال أهل البلدة، وبدوري أقدّم له تقاريرَ مفصّلة، عندها تنفرجُ أساريرُه.
في زيارتي له بعد هذا الأسبوع التاريخي سألته:
يا عمّ “أبو سليمان “، أين هو الوحش الذي تنبّأتَ بوصوله ؟؟ لم نرَه، ولم يصلْ، الرجالُ من الشيوخ والشباب قد تركوا أشغالَهم وسكنوا البراري والقفار،
أما العجائز ُ والأطفال فقد آوَتهم الكنيسة ومنهم من احتمى بالمسجد ،ماذا نفعل؟؟
رفعَ جسده النحيل عن فرشتِه البسيطة أسمدَ ظهرَه على جدار المخبز، نظر إليّ بفرحٍ ورضى، سرى الدّمُ في وجهه فبدا متفتّحًا ، كأنّه عاد للحياة الآن بعد موتٍ مؤقت، ثمّ قال:
بوركتم يا ولدي، لقد قتلتُم الوحش،
قتلتُم الوحش.
بلّغ شيخَ القرية والراهبَ أن يصرِفا الناس إلى بيوتهم،
اطمئنّوا يا ولدي ، لقد قتلْتُم الوحش.
انتصبْتُ مذهولًا ، مخبولًا، وأنا أتمتِمُ :
قتلْنا الوحش،
قتلْنا الوحش،
قتلْنا الوحش.