مقالات

بلا اطياف / رياض الصالح

سيبقى الآخرون يا عزيزتي حاضرون في أذهاننا رغم الأنف ورغم المشيئة .. مهما شغلتنا دهاليز العزلة، وجذب أرواحنا صفاؤها واسترخاؤها .. فليس للذات فرار من وجود الآخر أثناء رحلة تشَكُّلِه وصناعته وعند استراحته وتأمّله وغوصه في بحار أحلامه وأمانيه .. حتى لو كان هذا التواجد مجرد تسلية ذهنيّة تتخلل حواراً ذاتياً أو مقارنة شخصية تبعث على التقليد أو المجانبة ..
لن يفلح الإنكار المستمر بأن طيفَ شخصٍ جمعنا به مفترقٌ ما في دروب الحياة، قد زال أو أزيل انعكاسه نهائياً عن جدران الذاكرة وألقي في غياهب جبّ النسيان السحيق .. ستمُرُّ ذكرياتٌ سيّارةٌ مُتطفّلةٌ ذات ليلة بهيمة معتمة .. تلتقط ذلك الطيف دون إذن .. وتُعيدُه للخيال من جديد ..
فكيف لو لم يكن الزهد بثمنه البخس ودراهمه المعدودة هو من ألقاه في ذلك الجبّ حرصاً على نسيانه .. إنما ثورةٌ ظالمةٌ مجنونة أطاحت بعظيم شأنٍ طغى على كل ما كان في البهو من سفاسف .. فالنفس تميلُ للتفاهة المريحة وقهقهات السمر وترهق من العقل عندما يحضر ويتكلم فيبطل بقوة حضوره كل البدائل حتى تحصل تلك الثورة ويلقى ظلماً في ذلك الجبّ ..
ستكون ضرورة استعادته حتميّةً مُلِحَّةً لاستعادة الإشراق الذي انقطع .. رضينا بذلك أم كابرنا .. أو نكتفي بحضور طيف ملامحه إن عجزنا عن استحضار الروح أو الجسد .. فلا بد لليلة الظلماء الكئيبة المرتعدة .. من افتقاد طاقة البدر الساكنة الآمنة .. يا عزيزتي
آثار هذه الأطياف ضخمة على المدى البعيد .. ضخامتها ستحجب رؤية من طبعها أول مرة .. فلن تأخذ تلك الأطياف شكراً ولن يُثنى عليها ذكراً .. كما لن يُلمَحَ من بعيد لا حقيقةً ولا سرابا .. وإذا لمع بريقه بصدفة عابرة أُشبِعَ نُكراناً .. كما هو التاريخ المنسيُّ لملايينٍ ساهمت في إنشاء حاضرٍ لا يذكره إلا بنزره الشهير فقط ..
لعلك تذكرين فيما مضى كيف كنا نتساءل عن المواقف التي تستثير دموعنا .. بالعادة كنا نحصيها على أصابع اليد الواحدة .. وكنا مختلفين آنذاك يا عزيزتي .. فقد كانت مواقف مساعدة الآخرين وإسعادهم تثير تعجبّكِ لنجاحها بإسالة مدامعي عند حضورها .. وتبعث فيك استغراباً وفضولاً عند اعترافي أنها ليست دموع فرح بالمطلق .. ولم تستوعبي شرحي بأن تركيبَة هذه الدموع تجتمع فيها حسرَةٌ على شحّ مثل هذه المواقف .. على الأقل في ذاكرتي .. وحسرةٌ أخرى لاختزال السعادة في مثل هذا النوع المكلف روحاً ومالاً وجهداً ووقتاً وتفكيراً .. وحسرة ثالثة لمّا يتبيّن لنا عدم فلاحه في إرضاء أحد عوضاً عن إسعاده .. فمهما بلغت القدرات .. ستظلُّ ضعيفة فقيرة أمام قوة الاحتياج ومطامع النفس .. فينشأ الخوف من النكران والجحود أو حسرةُ الندم على ما بُذِلَ ثم ضاع على قارعَة من لا يعترف بالفضل ولا يردّ المعروف بالمثل لا سيما وهو يصعب عليه الشعور بالامتنان .. مع انعدام الحرص على نيل مثل هذه المطالب، لكنها محفزات مهمة للمثابرة ..
فتضاف تركيبة أخرى تزيد تلك المعادلة تعقيداً، وهي نشوء تدافع ذاتي بين المطالبة العكسية بالتوقف والمطالبة الطبيعيّة بالصمود على العطاء، وهما خياران كلاهما مرٌّ وموجعٌ ومبكي عند من جبلت نفسُه على استجداء السعادة من وجوه من يُسعِدُهُم ..
دعكِ من كلّ هذا التعمّق الأرعن يا عزيزتي.. فقد ثبت لي عقلاً أننا ندمّرُ أرواحنا بمثل هذه الأفكار .. بل نُثبِتُ أننا نفرُّ من الملامَةِ على التقصير بهذا الشكل المعقّد من التبرير، فالحياة أوسعُ من كلّ هذا الضيق، وأجدر بالحفاوة لوجودنا فيها، بدلاً من استجلاب همومٍ لا تتخلّقُ إلا في عقولنا المُنغَلِقَة .. دعينا إذن ننطلقُ للأمام بلا زمام، ونعيشُ بلا تشويش، ونلتفتُ إلى ذواتنا المتعطّشَةِ للحياةِ الوادعَةِ الهادئةِ المنسابَةِ مع النسيم .. فجميعُنا أنانيّون، تنافُسيّون، تحرّكُنا المصالِحُ الذاتية .. ليس ذلك عيباً طالما تعششت فينا غرائز البقاءِ والقوّةِ والدفاع عن النفس.. لا أفضليّة بيننا .. فلندَع الآخر يعالِجُ روحَهُ وشؤونَهُ بما أدركَهُ من طُرُقٍ وحلولٍ وفلسفات .. نقترِبُ إن اقترب .. ونبتعِدُ إذا ابتعَد .. ولا نستجدي اهتماماً .. فإن لمعت أطيافُهُ في خيالِنا فليس لها علينا إلا طرحُ السلام .. بلا كلامَ ولا اهتمام ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق