عربتان فوق جسرٍ ضيِّقٍ
تجري هذه الأيام عملية إقصاء لبقايا الفكر اليساري، في معظم أرجاء العالم، غير أن إقصاء الفكر اليساري في إسرائيل، هو الأسرع من كل بلدان العالم، على الرغم من صعوبة رصدّ هذه الظاهرة إعلاميا، ويعود السببُ في ذلك، إلى أن إسرائيل تحاول إخفاء هذه الظاهرة، لأنها تُفقِدُها مصدرا رئيسا من مصادر الدعم المعنوي والمادي، فقد ظلت إسرائيل تستقطب اليساريين خلال تاريخها الطويل، بواسطة عدة وسائل، أبرزها النظام الكيبوتسي، وهو نظام لا يحاكي النظام الشيوعي فقط، بل هو يندرج فيما بعد الشيوعية والاشتراكية، وكان هذا النظامُ فخاً لاصطياد المهاجرين من الدول الشيوعية والاشتراكية، واصطياد الدعم المادي أيضا .
وهذا النظام الكيبوتسي لم يعد قائما اليوم، وقد أصبح في عداد الذكريات، أو لعله يعيش في غرفة الإنعاش، على الرغم مِن أن إسرائيل لم تعلن إفلاس هذا النظام الكيبوتسي، ومِن ثَمَّ لم تقُم بتشييع جثمانه.
كما أن إسرائيل تُخفي إعلان موت اليسار، لسبب آخر، فإعلان تشييع اليسار إلى مثواه الأخير يُفقِدها زعمها الدائم بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن جيشها هو الأكثر أخلاقا بين جيوش العالم، وهي أيضا واحة الحريات في صحراء الديكتاتوريات العربية.
إن البديل الوحيد لغياب اليسار، هو اليمين اليهودي المتطرف، وهذا اليمين ليس سياسيا، بل يمينٌ دينيٌ متخلف، متطرف، إقصائي، لا يؤمن بوجود الآخرين جميعِهم.
وإليكم وصفا سريعا لخطوات زحف جحافل اليمين المتطرف على أبرز معاقل اليسار الغابر، أو المسافر ، والمهاجر.
إن أبرز وأهم مؤسسة في إسرائيل، هي المؤسسة العسكرية، فالجيش في إسرائيل، هو الوحيد الذي ينظم أشتات الإثنيات في إسرائيل، فلولاه لتفككتْ الفسيفساء اليهودية.
فلم تعد نسبة الحارديم المتدينين في الجيش أقل من اثنين في المائة، في سنوات تأسيس إسرائيل الأولى، فالحارديم المتطرفون اليوم أكثر من ثلاثين في المائة.
كما أن التعليم هو الناظم الثاني للأعراق في إسرائيل، فمن المعروف أنَّ التعليم في إسرائيل يتوسع بسرعة فائقة، وتوسُّعُه على حساب التعليم المدني الحكومي، فهو لا يبتلع الميزانيات فقط، ولكنه يبتلعُ أيضا أعدادا كبيرة من أطفال وشباب مَن كانوا يُحسبون في الماضي يساريين.
ها هي صحيفة اليسار الرئيسة هآرتس تُخصص افتتاحيتها لموضوع مهم، وهو ( حردنة الجيش الإسرائيلي) بحيث سيصبح في المستقبل جيشا شرعيا دينيا!
جاء في التحقيق:
“إن شعبة التوجيه الديني في الحاخامية العسكرية تقوم بتنظيم ندوات ولقاءات وحوارات تبشيرية بين الجنود والضباط، وتغذيهم بالروح الدينية، كبديل عن العقيدة العسكرية، والهدف هو تغيير الجيش إلى (ديني قومي).
يتدخل الحاخامون في شؤون الجيش، ويحدون من صلاحية النظام العسكري لمصلحة الديني.
تحاول شعبة التوعية الدينية في الجيش مصادرة سلطات القوانين العسكرية، كما أوضحت الصحفية، غيلي كوهين، في تحقيق صحفي لهارتس.
طلبت الحاخامية خمسة وعشرين ألف نسخة من كتب دينية، لتدعيم روح القتال ، وفق الشريعة، ومن الكتب فتاوى الحاخام، نحمان برسلاف”. افتتاحية صحيفة هارتس 29/12/2015
لم يقتصر هذا الإنذار على صحيفة هارتس، بل طال أيضا مركز الأبحاث والأمن القومي، فقد ألقى، رئيس الشاباك السابق من عام 1982-1986 ، كرمي غيلون ورقة بحثية في المؤتمر يوم 17/1/2016 جاء فيها:
” إن أسوأ منصب في إسرائيل، هو منصب مكافحة الإرهاب اليهودي في الشاباك.
عام 1984 اعتقلنا 27 إرهابيا يهوديا، بتهمة محاولة تفجير حافلات فلسطينية في القدس الشرقية، وقد ظهر قانون في الكنيست، بموجبه جرى الإفراج عن عدد منهم.
إن الإرهاب اليهودي أشد خطرا من الإرهاب العربي، فالاعتداء على الكنيسة في القدس القديمة، وكتابة شعارات ضد المسيحيين 17/1/2016: (الموت للمسيحيين) هو إشارة إلى هذه الخطورة.
ما الذي يجعلهم أكثر خطورة؟
إنهم مصنفون كإرهابيين أيدلوجيين، وهو أخطر من كونهم إرهابيين عاديين، لهم رؤية ما بعد الإرهاب، فحزب مائير كاهانا أُخرج عن القانون.
يجب قمع الإرهاب اليهودي ، فإرهاب داعش موجه للغرب، ولا يهدد حتى الآن إسرائيل، أما الإرهاب اليهودي فإنه يهدد بالفعل إسرائيل .عندما نتعامل مع الإرهاب العربي نتعامل مع النظرية الصحفية العادية:( كلب، عضَّ رجلا)!
بينما عندما نتعامل مع الإرهاب اليهودي، فإن النظرية تختلف لتصبح:( رجلٌ عضَّ كلبا).”
أما الكاتب، ناتان كردوزو يسردُ مقدمات ونتائج هيمنة اليمين الديني الحريدي المتطرف على إسرائيل، فيقول:
” عندما تقرأ تعاليم بعض الحاخامين، تجد فيها عنجهية وتمييزا.
أقدم الإرهابي، يغئال عامير على قتل رئيس وزراء إسرائيل، إسحق رابين، منذ عشرين عاما، وادعى أن القتل جرى باسم الشريعة، وهو قد عرَّض شعب إسرائيل لخطر الموت.
وفي عام 1994 أقدم، باروخ غولدشتاين على قتل 29 عربيا في الخليل، لأنه كان يعتقد بأن الشريعة دفعته للقتل.
وظهر كتاب (توراة الملك) المحرض على قتل غير اليهود، ومما جاء فيه: يجوز قتل غير اليهود بلا محاكمة… وهو يهدد أمن إسرائيل.” تايمز أف إسرائيل 18/1/2016 .
يُضاف إلى ذلك مجموعة القوانين التي يعتزم الكنيست إقرارها في الأيام القادمة ومنها:
مشروع قانون الشفافية، لمطاردة المنظمات غير الحكومية، التي يقودها اليساريون، وبموجب القانون، يجب على هذه الجمعيات الإبلاغ عن مصادر دعمها في تقاريرها للجهات الرسمية.
ومشروع قانون منع كل داعمي حملة المقاطعة لمنتجات المستوطنات، وإسرائيل، ومشجعي البي دي إس من اليساريين، من دخول إسرائيل.
ومشروع مطاردة منظمة(جنود يكسرون الصمت اليسارية) واعتبار نشاطها يقوض أمن إسرائيل.
رصدتُ هذه اللقطات خلال أقل من شهرٍ واحد فقط، وهي بالتأكيد تكشف حقيقة هذه الدولة، وسأظل أردد نبوءة حاخام الطائفة الحريدية الحسيدية الأكبر الأسبق في منتصف القرن العشرين، إبراهام يشعياهو كارليتس، المتوفى 1953م:
“مثل العلمانيين والمتدينين كمثل عربتين التقتا فوق جسر ضيق، الأولى تحمل التاريخ والدين، والثانية فارغة، وهي عربة الصهيونية العلمانية، أو اليسارية، وعلى العربة (العلمانية) الفارغة!! أن تخلي الطريق للعربة المملوءة بالدين”.