نشاطات

أمي وشجرة الزيتون-بقلم ألكاتبه وألباحثه-د\دنيا الأمل اسماعيل

أسكن مع أسرتي في بيتنا، الذي يطل على بيارتنا المزروعة بأشجار الزيتون والليمون والبرتقال… لا أعرف منذ متى أسكن في هذا البيت، لكن من المؤكد أنّ ذلك كان منذ زمن بعيد، حتى قبل أن أولد. دائماً ما كنت أستمع إلى أبي مع أخوتي، في جلسات المساء وهو يتحدث عن جدي وعلاقته بالأرض، بهذه البيارة، التي أطّل عليها في كل صباح ومساء بعينّي اللتين شاهدتا حياتها ومواتها، فرحها وحزنها.
كان جدّي مزارعاً، وكذلك أصبح أبي، ولا أعرف إن كنت أنا أو أحد أخوتي سنصبح كذلك، صحيح أننا نساعد أبينا وأمنا في رعايتها، لكنني لم أفكر يوماً في أن أكون مزارعاً.
لا تصدوروا صوتاً، فنفعل ما يقولان بصمت وتسليم ممزوج بالهيبة والطاعة، ونظل ننتظر عودتهما… فقط عودتهما، وكلما تأخرا في العودة، ازداد شعورنا بأنّ دبابة ضالة، ستهتدي إلى صمتنا وتحوّله إلى ضجيج نكرهه. أحياناً كثيرة كنت أسمع أمي وهي تلعنهم وتطردهم من أرضنا، فأعجبكانت بيارتنا من شدّة حضورها في حياتنا، لا تحظى بالكثير من التفكير في مستقبلها ومستقبلنا معها، أو في ظلها. فقط كانت أمامنا وداخلنا كواحدة من أفراد الأسرة، ليس أقل وليس أكثر.
دائماً ما صحوت على فأس أبي، بصوته الرتيب في ساعات الفجر الأولى، ولم يتغير ذلك المشهد الصوتي شتاءً أو صيفاً، حتى حين كان يمرض أبي، لم يكن يترك الأرض بمفردها، كان دائماً هنا، هو وأمي، يعملان ويعملان ويعملان، تعلو وجهاهما قسمات حادة وتعابير لم أدرك معناها الحقيقي سوى في لحظات المواجهة مع دبابات الجيش. أمّا الضحكات والأغاني فتظهران في وقت الحصاد، وقت الثمر والبيع… حتى ملامح بيتنا تتغير بعد أن يبيع أبي محصول البيارة، يصبح أكثر فرحاً وأكثر حيوية، كنت أشعر أنه يعود شاباً أكثر مني.
أما في لحظات الاضطراب والخوف، التي تنتابنا وقت الاجتياحات الإسرائيلية، فإنّ أكثر ما يقلق أبي وأمي أشجارهما، الزيتون والبرتقال والليمون. حين يبدأ صوت الدبابات في اختراق قلوبنا وأسماعنا، ينتفضان، يهّبان إلى الخارج دون أن يلتفتا إلينا، تاركين لنا النصيحة المركبة، التي حفظناها، وسنرددها لأبنائنا من بعدهما: خذوا بالكم من أنفسكم، لا تقتربوا من الأبواب والنوافذ، ادخلو إلى الغرفة الوسطى، أطفئوا الأنوار، من جرأتها أمام الموت الذي يعلن عن نفسه في صورة زي عسكري إسرائيلي، فأحدّث إخوتي الصغار همساً: ” إنها أمنا … لا تخافوا… اسمعوا صوتها… أتسمعون”.
لكنّ ذلك اليوم كان مختلفاً بعض الشيء، لكنّ بعض الشيء هذا حدد مكانه بعمق في ذاكرتي وذاكرة أخوتي الصغار، حتى أنني كثيراً ما سمعتهم يعيدون سرد تفاصيله فيما بينهم حين يجتمعون للعب أو لتجاذب الحديث عند عتبة الدار، حدث ذلك منذ صيفين، ونحن الآن في الصيف الثالث لحادثة أمي وزيتونتها.
كان لأمي شجرة زيتون خاصة، ترعاها مثل ابنة لها من أحشائها، كانت هذه الشجرة العملاقة والعتيقة قريبة جداً من نافذة غرفة أمي، التي أصرت قبل بناء بيت الزوجية أن تطل غرفتها على هذه الشجرة تحديداً، التي رافقتها أيام طفولتها وشبابها وكهولتها، وشهدت معها أحزانها قبل أفراحها، وتبادلت معها الأسرار والأخبار والذكريات، هكذا كانت تقول لنا بكل فخر واعتزاز .
كانت أمي حين تتحدث عن شجرتها، كأنها تتحدث عن جارةٍ لها، إنسانٍ كامل الأهلية، غير منقوص العقل، وكنت أعجب أحياناً من هذه العلاقة الغريبة. وحينما تأكد لي عشق أمي لهذه الشجرة، وجدتُ فيها مفتاحاً سحرياً لقلب أمي، فكنتُ أحلّفها بشجرتها أن تجعلني أخرج مع أصدقائي، أو أن تسمح لي بمشاهدة التلفاز مدة أطول، بل إنني كنت أستخدم هذا العشق في جعلها تطبخ لي ما أحب مراراً وتكراراً، وكانت أمي دائماً ما تقبل، وحينما انتبهت إلى مكري الطفولي، أقلعت عن إجابة طلباتي، بعد أن أعلنتُ بتحريضٍ من أخوتي عن ضعفها أمام شجرة عمرها.
المهم أنه في ذلك اليوم من أيام الصيف، كنا نجلس في البيارة، نعد لحفلة شواء صغيرة، لم تحدث منذ فترة طويلة جداً، بعد إلحاح مني ومن أخوتي، ودعونا يومها بعض أقربائنا المحيطين بنا. كانت جلسة رائعة، في ليلة فيها من نسمات الصيف المعبقة بأريج الأزهار والورود التي تحضن جلستنا، ما جعلها ليلة من أجمل ليالي عمري، ملأني هذا الشعور بعمق فأحببت بيارتنا أكثر، واختلط هذا الشعور بأحاديث أبي وأمي مع الأقارب عن الوطن والأجداد وذكريات الأرض والحصاد، وما كاد هذا الشعور يغزّي روحي وقلبي ويشعرني بالانتعاش، حتى اهتزت الأرض تحت أقدامي، نظرت حولي فوجدت الجميع مثلي… وقفنا جميعاً، وقد أدركنا من الصوت أنه الجيش الإسرائيلي. سريعاً اقتربنا من بعضنا، احتضن الكبار من الأولاد الصغار منهم، أطفأنا نار الشواء، وأمسكنا بما كان جوارنا من أغصان الشجر، استعداداً للمواجهة، النساء والرجال والشباب، حتى أنا كنت أحمل في يدّي أحجاراً، لم أعرف من أين التقطتها أو كيف.
اقتربت الدبابة، لا… لم تكن واحدة، ربما ثلاثة أو أربعة، بدأت الأمور تتضح مع الأنوار الهائلة، التي انطلقت منها، أصبحنا محاطين بالدبابات. خرج الناس من البيوت، بعد أن زعق كبيرهم بأن يخرج كل من هو فوق السادسة عشر من عمره، إلى الساحة الرئيسة في القرية، لم يخرج الرجال والشباب فقط، بل خرجت النساء أيضاً والفتيات والأطفال، لقد حفظوا الدرس وعرفوا ماذا عليهم أن يفعلوا، بعد كل هذه السنوات من الصراع.
حين رأى الضابط الاسرائيلي المشهد أمامه، ردد بصوت عربي، لا هوية فيه، قلت شباب فقط، فلا يرد أحد. ويبقى الجميع صفوفاً متلاحمة أمام بيوتها وأشجارها. سألت أبي ما الذي يحدث، هل سيقتلوننا، فنهرني أبي بنظرته دون كلام، فعرفت أنه يوّبخني على طريقته، فالتزمت الصمت وانتظرت ما يمكن أن يحدث، لكنني كنت خائفاً بشدة، ولم أجرؤ على البوح بذلك لأحد، خاصة بعد أن رأيت رشيد ونضال وكمال أولاد جيراننا وهم أصغر مني صامدون وواقفون وأصواتهم تعلو بالتهديد وأيديهم تساند أصواتهم بما تحمله من حجارة وأحذية وأخشاب، تخرج من عيونهم شرارات غضب ، لم أعهدها فيهم من قبل؛ فاستدركت مشاعري وشحنت همتي وفردت جسمي ومططتُ شفتّي إلى الأمام بشكلٍ جدّي، وقلت في نفسي: ” أنا أيضاً صامد”، أفقت من شطحاتي السرّية على صوت تحرك الدبابات، وهي تتجه صوب أشجار الزيتون والليمون والبرتقال، تقتلعها من جذورها بدمٍ بارد، زعق الناس بأصوات مختلفة، لم أفهم الكثير منها، لكنها كانت تحمل نبرة غضب وتهديد، ثم رأيت الحجارة تطير من أيدي الجميع، ثم رأيت أحذية وعصي وأواني تصعد في الهواء ثم تهوي على الجنود، سمعت بعد ذلك صوت رشاشات المدافع وهي تطلق رصاصها من أعلى الدبابات، أصيب البعض، علا بعض الصراخ، لكنّ أحداً لم يتراجع، وضح لي صراخ أخوتي وأطفال الجيران فتعاونت مع أصدقائي وأدخلناهم أحد المنازل مع شام ابنة جارنا أبو السعيد.
هاج الناس وهاجت عدوانية المحتل، فداست دباباته زروعنا وبعض بيوت جيراننا البسيطة، والناس يلقون بأنفسهم أمام الدبابات للحيلولة دون تقدمها، لكن بعد محاولات غير قليلة نجحت في الوصول إلى بيتنا، شعرت بالخوف وبقلبي يهبط إلى قدّمي، فدعوت الله سراً أن لا يهدموه، في تلك اللحظة اكتشفت كم كنت أحب ذلك البيت، جريت بكل قوتي، حتى وصلتُ إلى عتبة بابه مواجهاً الدبابة، فارداً ذراعي بأقصى ما يمكنني، فارتطمت أطراف أصابع يدي اليمنى بأطراف أصابع أبي واليسرى بأصابع أمي، تشابكنا، تقدم الجيران، تشابكت أيدينا جميعاً، اقتربت الدبابات أكثر، لكننا لم نتحرك ، كنا خائفين، لكننا شعرنا بالقوة أيضاً. اقتربت الدبابات أكثر وأكثر، لكننا أيضاً لم نتحرك، ارتفعت أصواتنا: ” ارحل ارحل يا محتل”، لكنه ظل يتقدم، حتى كادت وجوهنا تلامس فوهات الدبابات، سمعنا بكاءً، لم أعرف مصدره، لكنّ عيوننا ظلت معلقة على البيارة، مفتوحة على فضائها وقدرها. لا نعرف كم من الوقت بقينا على هذه الحال. كنت أسمع جهاز اللاسلكي وهو يبث رسائله بالعبرية، فأسأل أبي عن ذلك، فيجيبني بأنه يسأل قائده عما يفعله معنا ، فوجئنا بعد ذلك بتحول الدبابات إلى الأشجار تدوسها دون رحمة، كانت خيوط الفجر قد بدأت تشق طريقها إلى النور، لكنّ الظلمة كانت تملأ جوف الدبابات، لا ترى ولا تبصر سوى القتل سبيلاً لخروجها، ارتمت الأشجار على أرضها دون صراخ، دون خوف ودون استسلام، نامت على أرضها نومة المطمئن، لكنّ ناس بلادي لم يشعروا بالإطمئنان، تباعدت أيديهم، وتفرقوا يجرون خلف أشجارهم يحمون وقفتها وصمودها، بعضهم نجح، لكنّ الكثير من الأشجار كانت قد انتزعت من أحضان أمها، كانت الدبابات تزهو بجريمتها، وأصوات أبي وأمي والجيران تهز سكون المكان وتعلو على أصوات الدبابات: لا… لا لن نهزم ، نحن الأهل وأنت المجرم.
ثم رأيت أمي تجري نحو شجرتها، تحتضن جذعها بذراعيها، شعرت بالقلق، تمنيت أن تبقى هذه الشجرة من أجل أمي، دعوت الله أن لا يصلوا إليها، أن يبقوا عليها فقط، نقّلت نظري بين أمي والدبابات، لا أعرف ماذا أفعل، هل أذهب نحوها وأساندها في حماية شجرتها، أم أصد مع أصدقائي هذه الدبابات عن بقية الأشجار الأخرى.
أمي تصرخ. إنه صوت أمي، نعم. جريت نحوها ، كانت إحدى الدبابات تتجه نحوها بإصرار واضح، صرخت: لا ابتعدوا من هنا ، إنها شجرة أمي، زيتونتها، ألا تعرفون. للحظة خاطفة اعتقدت أنه ربما قد يفهمون مشاعرها فيتركونها وشأنها، لكنّ ذلك لم يحدث.
تقدمت الدبابة وأمي تحتضن زيتونتها، شجرة عمرها، جسدها يلتصق بجذعها، ذراعاها تحنو عليها كأم تهديء من روع صغيرتها. ناديت بأعلى صوت: أمي… لم تنتبه إليّ، كانت تبكي… رأيتُ أمي تبكي، يا للهول، هذا مصاب أمي الجلل، لم أرها في حياتي تبكي، حتى حين رحل جدي كانت قوية ومستسلمة لقضاء الله… ماذا يجري؟ ماذا أفعل، جريت والدبابات تتحرك وتهز الأرض وأمي تحتضن شجرتها، لم تعد تشعر بما يدور حولها، توحد عالمها بعالم الزيتونة، ثم صرخت ، كانت صرخة طويلة جداً ، وعالية جداً جداً.نادى أبي: يا أم أحمد ، أنا قادم
اقتربت الدبابة أكثر، لم يعد بينها وبين أمي مسافة تذكر، بقيت أمي على حالها، لا تتحرك، رأيتها تغمض عينيها، ربما حتى لا تشهد مصيرها، أو مصير شجرتها، تدافع الناس، نادى بعضهم عليها مسانداً وداعماً، ، والبعض طلب منها الابتعاد حماية لها، لكنها لم تسمع، بقيت تحضن شجرتها بقوة واصرار، لا تريد أن ترى ما قد يحدث، فقط تريد أن تبقى هذه الشجرة، أو أن يموتا معاً، فثمة حبل سرّي يصل بينهما، لا يراه المحتل ولا هذه الدبابة، ولا ذلك الميكروفون الذي يزعق بصوت صاحبه: ” ابعد يا ست” لم تتحرك أمي، وكلما حاول بعضنا ابعادها اشتد التصاقها بها، توافد الصحافيون بومضات كاميراتهم، لاحقتها أسئلة عديدة، سمعت صداها بشكل عابر، مرت على عينيها المغمضتين أطياف جموعٍ يحملون شاراتٍ حمراء، عرفت أنه الصليب الأحمر، خاطبها بعضهم، لكنها بقيت على حالها.
توسعت خيوط الصباح في الانتشار، جابت أجواء المكان وغمرتها بالنور، وجلبت معها جموعاً جدداً من المواطنين والمواطنات من أماكن بعيدة نسبياً عن القرية، صحوا على أخبار لا تسر، فأسرعوا إلى صناعة يومهم التاريخي، وأمي تصنع ملحمتها بصمتٍ واصرار لا مثيل له، والدبابة أمامها تنتظر الأوامر، هل تتقدم أم تتراجع، أكثر من ساعة مرت، وجميعنا ينتظر، حتى جاءتني فكرة إلقاء الحجارة على الدبابة من الخلف، همست بذلك إلى أصدقائي، تسللنا دون أن يشعر بنا أحد، ومن الخلف بدأنا نقذف الدبابة بالأحجار، وأي شيء كنا نلتقطه من على الأرض، سمعت صوت جنازير الدبابات تتحرك، اعتقدت أنها تتحول نحونا، وكان ذلك بالنسبة لنا انجازاً، لكننا فوجئنا بأنها تبتعد عنا، تذهب إلى طريق مختلفة، تاركة أمي مع شجرتها ، ارتمت أمي على الأرض، تحلّقوا حولها، سكبوا على وجهها ماءً، انتفضت ونظرت إلى شجرتها وابتسمت وهي تقول : نحن الباقون.

مقالات ذات صلة

إغلاق