الرئيسيةمقالات

(صديقي اكرم في زمن الطين ) محمد جبر الريفي

في كل يوم في وقت العصر كنت التقي بصديقي اكرم ،كان بيته الطيني قرببا من بيتنا الطيني ايضا في ذلك الزقاق الطيني الضيق المليء باعشاش العصافير ..كنت اجلس انا واكرم لوحدنا وجها لوجه فوق السطح نتحدث عن كل شيء ونظراتنا لا تفارق العصافير التي تغرد فوق البيوت ..حين عدت من الغربة الى الوطن بعد سنين طويلة قاربت الثلاثين عاما متواصلة لم انس صديقي في الطفولة اكرم ..لكن كل شيء في حارتنا قد تغير ..اختفت البيوت الطينية وتباعدت اسطح البيوت المبنية بالاسمنت واختفى من فوقها دخان الافران الطينية التي كانت موجودة في كل بيت وفارقت الطيور ذلك المكان لان جولاتها اصبحت عابثة بسبب نضوب الماء الذي كان يوجد في جداول الحقول والبيارات القريبة …اما الحاج عبد الله الذي كان يقوم بمزج الطين بالماء والتبن لتغوص قدماه العاريتان في كومة لزجة يغطي بها اسطح البيوت الطينية خوفا من دلف مياه الامطار فقد مات ولم يعد احد من اولاده يخلفه في هذه المهنة كما نسى الناس في الحارة الشيخ الحنجوري الذي كان يبيع اباريق وجرار الفخار والاواني الاخرى المصنوعة من الطين والتي كان يتجول بها في شوارع حارات غزة القديمة .. …لقد غابت عن الذاكرة طبيعة ذلك الرجل النزقة ووجهه المتجهم العابس وما ظل في الزقاق الطيني الضيق الرطب من بيوت طينية كانت تزينها عرا ئش العنب سوى بيت واحد لم تتغير جدرانه .. بقت قاعتة الفسيحة تنتصب بها شجرة النبق الضخمة التي كان اولاد الحارة يرمون ثمارها بالحجارة …واخذت اهمس بيني وبين نفسي واقول :كيف نسي الاستاذ رؤوف هذا البيت واستسلم لحياة الغربة في الخليج ..احسست برعشة وانا اتامل ذلك البيت الطيني القديم وخيل لي اني اسمع صوت اصحابه وضحكاتهم وارى جلسة نسوة الزقاق عند الفرن الطيني وكذلك ينتابني احساس لذيذ بانه يتناهي لي صوت المذياع الخشبي الكبير الذي كان يعلو في المكان باغاني عبد الوهاب وصوت احمد سعيد المذيع المعروف في اذاعة صوت العرب …أحسست في تلك اللحظة بصوت دقات ليلى بنت الاستاذ رؤوف باصابع يدها الناعمة على الباب وقد عقدت من شعرها الاسود الفاحم ضفيرتين طويلتين جعلتهما منسدلتين على كتفيها العريضين واخذت حينها اسال نفسي :لماذا لا يعود الاستاذ رؤوف الى الوطن مثلي ويكحل عينيه باثار الدموع حين يرى كرسي القش الكبير الذي بهت لونه بفعل مرور السنين و الذي كان يجلس عليه والده أمام البيت بعد صلاة العصر ؟ولماذا لا تعود ليلى هي الاخرى وقد طال بها الان العمر وتدق باب هذا البيت الطيني القديم التي ولدت فيه كما عدت انا بعد ثلاثين عاما من الغربة ؟ اخيرا وجدت نفسي اترك هذا البيت القديم وكاني اودع انسانا عزيزا على قلبي ..سرت بعدها في الشوارع ببطء ..كانت الشوارع مزدحمة بالرجال الذين لا اعرفهم وعندما وصلت الى شارع فهمي بك التجاري في غزة رايت رجلا تخطي الستين من عمره بشاربيه الكثيفين. ..بلونهما الابيض كالرخام وامامه بجانب الرصيف سلع وبضائع مختلفة وقد عرفت من الرجال القريبين من حوله انه اكرم صديق الطفولة الذي ابحث عنه …نظرت الى وجهه الذي تغير معالمه كثيرا …اخذت امعن النظر فيه اكثر ..لقد ادركت في تلك اللحظه انه بالفعل اكرم .. اكرم الذي كان يحلم في الطفولة بمستقبل وردي حين كنا نجلس سويا على سطح البيت الطيني نتابع تغريد العصافير .. يبقى اكرم طيلة النهار واقفا في ذلك الشارع التجاري الصاخب بالحركة يعرض تلك الأشياء الرخيصة وينادي باعلى صوته الخشن الذي بات يعرفه كل الناس …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق