مكتبة الأدب العربي و العالمي

كتبت الاديبة والشاعرة ايمان مصاروه

الكتابة عن القامات الأدبية متعة ذهنية وروحية لا تضاهى ، حيث نلج عالم الكلمة الجميلة المعبرة والإحساس الصادق والشعور بالانتماء لجوهر الإبداع، ومع شاعر متميز مثل عبد الناصر صالح الذي سندرسه في هذا الكتاب تكون المتعة أكبر وأعمق وأتم ، إذ نقرأ سيرة وطن كبير في آماله وآلامه ، في بحثه الدائم عن الانعتاق ومعاناته مع الأسر ، وانتظاره لحظة الفجر المنير ، وهذا ما يصنع للشاعر قيمته واسمه ، حيث يختزل بمفرداته دلالات جمة تستعصي على التوصيف ، وتتأبى عن الإحاطة في أعمال دراسية ،فيكون مرادفا موضوعيا للحرية والأمل ، وتظل كتاباته ملهمة للجيل الجديد الذي يتوصل بالرسالة فيؤديها بأمانة وروح جديدة وثابة ، وشاعرنا عبد الناصر صالح الذي هو بالمناسبة نجل الشاعر والمناضل الكبير محمد علي الصالح أحد عمالقة الشعر الفلسطيني في سنوات الانتداب ، يملك الشيء الكثير من المواصفات التي تجعله مبدعا استثنائيا حاملا لضمير شعب ووجدان أمة ومكنون حضارة عريقة ،هذا إلى شاعريته الفائقة المرصعة بلغة رصينة وفنية عالية ومعرفة بأساليب الكتابة الأدبية ومناحي الأدوات الشعرية الحداثية وما تحمل من بلاغة ورونق وخفايا لا يلم بها إلا المتبحرون في لغة الضاد.
وفي هذه المنطقة العربية المباركة من الأرض ، فلسطين ، يكون الشاعر والوطن في حالة ترابط دائم ، واندماج كلي ، وتوحد صوفي ، فالأول يتجلى في الثاني والعكس صحيح، فإذا ذكرنا شاعرا حضر الوطنُ بمختلف ملامحه ، واستطعنا أن نسمع في كتابات الشاعر أنين الوطن ونجواه وأغانيه ، مشتكيا الأسر أو ثائرا على السجان أو متغنيا بالأرض وما فيها من زيتون وبساتين وأسوار وأنهار في دلالة على الارتباط بالجذور وعدم الاذعان لليأس ورفض مطلق للخنوع ، فالأرض لأصحابها ومن بناها بعرق الشرف والكفاح ، ومهما طال الأسر فستعود يوما لأهلها وتطلع في سمائها شمس الحرية . من ناموس الحياة أن النور يغلب الظلام ، والصباح يعقب الليل ، والحق ينتصر على الباطل .لهذا الوطن خصوصية متفردة عن غيره من الأوطان ، بفعل ما عاناه على امتداد قرون متواصلة من محن وخطوب وما شهده من إشراقات روحية ومحطات مضيئة وَسَمَتْ تاريخ الإنسانية بالإيمان والصبر والإرادة والنضال . وخلعت على الإنسان المتبرعم في هذه التربة أثواباً من الإبداع الحي قولاً وفعلاً وانطلاقاً لا يمل ولا ينثني في مضمار الحياة ، ليشيع فيها قيم الجمال وينشر عليها ورود الصدق وفي آفاقها نجوم المحبة ، من هنا يولد الإنسان شاعراً زاهرة في قلبه حقول الشعر وسائراً في طريق النضال بالقلم والبندقية ، وأولهما، أي القلم، أقوى إيلاماً وأشد وطئاً على الشياطين البشرية والغيلان المتوغلة في دنيا الحقيقة لتملأها ظلما وطغيانا وتشويها .
يمثل شاعرنا عبد الناصر صالح نموذجاً مثالياً للشاعر / الوطن، فقد عانق الهموم الجمعية منذ ريعان شبابه وكلفه ذلك ثمناً غالياً ، إذ قضى في بدايته مع النضال شهوراً كثيرة وراء القضبان لعمله في المجال الطلابي المكافح ، وبعدها قضى سنين معدودة في سجون الاحتلال لنشاطه في منظمة التحرير، وكان في تلك الفترة حرّاً بأفكاره الثورية مبدعاً بالكلمة الواعية والقصيدة الملتزمة، وأنتج خلالها شعراً غضاً قوي الشعور جياش المشاعر نحو الوطن ، وكان ناطقاً بلسان الجماهير معبراً عن كل ما يدور في أذهانهم من الأحاسيس والتطلعات، في قالب شعري بديع ، امتزج فيه جمال العبارة وجمال الشعور، ولذلك فالكتابة عنه تجعل المرء يصطاد عصفورين بحجر واحد : يقرأ عبارات المحبة المطلقة السامية للوطن والتعلق به والسعي لرفعته ، ويستمتع بأدب راق بليغ وصل إلى ذروة الإبداع التعبيري وحاز الروعة اللفظية كما حاز الجمال المعنوي .
ولذلك لفت الشاعر عبد الناصر صالح انتباه الكثير من النقاد والدارسين الفلسطينيين في الداخل والخارج ، فتناولوا شعره بالدراسة المستفيضة واعتنوا به أي اعتناء ، من بينهم الشاعر والناقد الفلسطيني طلعت سقيرق في كتابه ” الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني ” ،والأديبة فريدة النقاش ، والناقد صبحي شحروري ، والدكتور خليل عودة ، والدكتور إبراهيم نمر موسى ، ومحمد مدحت أسعد ، وإبراهيم مصطفى رجب ، ويوسف المحمود وغيرهم كثير . إلا أن هذا الشاعر الكبير رغم كل ما كتب عن تجربته الشعرية لم يحصل على الاهتمام الذي يستحقه ، ولعل مرد ذلك التركيز على أسماء معينة غطت على غيرها وحجبت الأضواء عن ذوات إبداعية فرضت وجودها في مشهد الشعر الفلسطيني، فلذلك كانت فكرة هذه الدراسة عن شاعرنا الكبير عبد الناصر صالح الذي يعده الكثير من المتابعين شاعر الوطن، لما يتميز به شعره من تدفق وحيوية ولغة طافحة بالأصالة والتعلق بالأرض والتوعية بالقضية.
إن تكريم رجال القضية وأبنائها البررة لا يقل أهمية عن صيانة ذاكرة الأمة وتعميق قيمها في أذهان الناشئة ، ومن أهم مظاهر التكريم إحاطة نتاجا تهم بالدرس والتحليل والتقريظ ، ليتعرف عليهم الجيل الجديد ، ويأخذ فكرة عن نضالا تهم وتضحياتهم ومكابدتهم ، ويرسم طريقه على هدى خطواتهم في النضال والإبداع والإيمان بالعدل والحق، ولأشعار شاعرنا من خصائص ومميزات ما يجعلها مهمة وضرورية للتدريس في المناهج التعليمية من أجل تقريبها إلى الناشئة وطلاب العلم وجيل المستقبل وإبراز إمكاناتها الوطنية المعرفية والفنية .
ومن حسن الحظ ، فإن نتاجات الشاعر عبد الناصر صالح غزيرة ووفيرة ، تمنح مادة دسمة لأي باحث، إذ أنه أصدر سبعة دواوين شعرية ، بين 1980 و2009 ، وقصائده منتشرة في العديد من المواقع الإلكترونية الأدبية ، كما مَدَّني الشاعر المُكرَّم مشكورا بعدد لا بأس به من قصائده القديمة والجديدة ، والتي تمثل مختلف مراحل تجربته الشعرية وارتفاع درجة تفاعله مع قضايا الوطن ، مما أتاح لي إمكانية تأليف كتاب عنه، وإعداد هذه الدراسة، عسى أن يعطيه قدرا ولو بسيطا من الاهتمام الذي يستحقه ، باعتباره شاعرا كبيرا ومناضلا عريقا، له منا نحن الأدباء حق إيلاء إبداعاته بالعناية القصوى وتسليط المزيد من الأضواء عليها .
.
ايمان مصاروة

المولود الجديد المنتظر… يذكر أنه سيصدر قريبا عن مطبعة ودار نشر “كل شيء” في حيفا ويقع في 110 صفحات من القطع المتوسط ومن مونتاج الدار”شربل” وأما تصميم الغلاف للفنان الكبير المشرف المبدع عارف ذوابة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق