الدين والشريعةمقالات

أ.د. لطفي منصور مَعَ الْآيَةِ الْكَريمَةْ

“وَأَلَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيِقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقَا”.
الْآيَةُ الشَّريفَةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ الّتي نَزَلَتْ عَلَى قَلْبِ رَسُولِنا الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، في طَريقِهِ إلى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، بَعْدَ ما جَرَى لَهُ وَلِصاحِبِهِ زَيْدِ ابْنِ حارِثَةَ، في سَفَرِ الطّائِفِ مِنْ كَفَرَةِ ثَقِيفَ عَنْدَما أغْرَوْا صِبْيَتَهُمْ بِالِاعْتِداءِ عَلَيْهِما، حَتَّى أَدْمَوْا أَكْعابَهُما، فَأَرادَ اللَّهُ طَمْأَنَةَ نَبِيِّهِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَفْدًا مِنْ مُسْلِمِي جِنِّ نَصِيبِينَ يُقْرِؤونَهُ السَّلامَ، وَيُهَدِّؤُونَهً بِرِسالَتِهِم الَّتي تَقُولُ: طِبْ نَفْسًا إنْ كانَ هَؤُلاءِ الْفَسَقَةُ لا يُؤْمِنُونَ بِرِسالَتِكَ، فَها نَحْنُ مَعْشَرًا مِنَ الْجِنِّ أَسْلَمْنا، وَها نَحْنُ نَتْلُو كِتابَ اللَّهِ: “قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إنا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبا، يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكْ بِرَبِّنا أَحَدًا”.
وَهُناكَ رِوايَةٌ أُخْرَى لِنُزولِ هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَها ابْنُ عَباسٍ ، وَهِيَ في صَحِيحِ الْبُخارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ تَقُولُ: كانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نَخْلَةَ (اسْمُ مَكانٍ قُرْبَ مَكَّةَ) في أصْحابِهِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، فَحَضَرَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. والنَّفَرُ ما بَيْنَ الثَّلاثَةِ إلَى الْعَشْرَةِ. فَاسْتَمَعُوا إلَى تِلاوَةِ النَّبِيِّ، فَأُعْجِبُوا بِبَلاغَةِ الْقُرْآنِ وَإعْجازِهِ. وَعادُوا إلَى قَوْمِهِمْ يُخْبِرونَهُمْ بِمَبْعَثِ عليهِ السَّلامُ.
الْجِنُّ مَخْلوقاتٌ خَلَقَها اللَّهُ مِنْ نارٍ، كَما خَلَقَ الْمَلائِكَةَ مِنْ نُورٍ: وَمَعْنَى الْجِنِّ الْمَسْتُورُونَ الَّذينَ لا نَراهُمْ أَبَدًا. نَقُولُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ أَيْ سَتَرَهُ، والْجَنَّةُ المَكانُ كَثيفُ الْأَشْجارِ، يَتّوارَى بِهِ مَنْ دَخَلَهُ.
وَقَدْ آمَنَتِ الْعَرَبُ في الْجاهِلِيَّةِ بِأَنَّ لِكُلِّ شاعِرٍ فَحْلٍ شَيْطانٌ يَقْذِفُ في فَمِهِ الشِّعْرَ، وَمَساكِنُهُمْ بوادٍ يُدْعَى عَبْقَرْ في نَجْدٍ. وَكانوا يَقولونَ: لَوْلا هَبِيدْ ما عَرَفْنا لَبيدْ. وَفي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: “لِكُلِّ امْرِئٍ شَيْطانُهُ وَلِي شَيْطاني لَكِنَّ اللَّهَ أَعانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ.
لَوْ أَمْعَنّا النَّظَرَ بِالْآيَةِ الشَّريفَةِ الْأولَى لَسَألْنا النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ ما يَلي:
– وَأَلَّْو: ما هُوَ مَفْهُومُها، وَلِماذا أُقْحِمَتِ الْهَمْزَةُ بَيْنَ الْواوِ واللّامِ؟
– اسْتَقامُوا: مَنْ هُمْ؟
– ما هِيَ الطَّرِيقَةُ؟
– اللّامُ في جُمْلَةِ “لَأَسْقَيْناهُمْ”.
– ماهُوَ الْمُرادُ بالتَّعْبير “ماءً غَدَقًا”؟
وَأَلَّْوْ: الْوَاوُ الْأُولَى لِلْعَطْفِ أَوِ الِاسْتِئْنافِ. أَصْلُ الْكَلامِ وَأَنْ لَوْ، قُلِبَتِ النُّونُ لامًا – عَلَى سَنَنِ لُغَةِ الْعَرَبِ في أَلّا – وَأُدْغِمَتْ في لامِ لَوْ التي هِيَ أَداةُ شَرْطٍ تُفيدُ الِامْتِناعَ لِامْتِناعٍ ، مِثالُ ذَلِكَ: لَوْ قَرَأْتَ لَنَجَحْتَ، أَيْ امْتَنَعَ نَجاحُكّ لِامْتِناعِ قِراءَتِكَ.
اِسْتَقامُوا: واوُ الْجَماعَةِ فاعِلُ اسْتَقامَ لِمَنْ تَعُودُ؟
قالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ الْبَلْحِي (ت ١٥٠ هج) وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَصَلَنا تَفْسيرُهُ كامِلًا مَطْبوعًا بِخَمْسَةِ مُجَلَّداتٍ: إنَّها نَزَلَتْ في كَفَرَةِ مَكَّةَ عِنْدَما ضَرَبَهُمُ الْجَدْبُ سَبْعَ سَنَواتٍ، فَجَفَّتْ آبارُهُمْ، وَنَفَقَتْ دَوابُّهُمْ.
الطَّرِيقَةُ: طَرِيقُ الْإسْلامِ، وَهُوَ الِانْقِيادُ لِلَّهِ تَعالَى.
اللّامُ في لَأَسْقْيْناهُمْ: اللّامُ واقِعَةٌ في جَوابِ لَوْ. أَسْقَيْناهُم: فِعْلٌ وَفاعِلٌ ومَفْعولٌ بِهِ، امْتَنَعَ اِسْقاؤُهُمْ لِامْتِناعِ اسْتِقامَتِهِمْ.
ماءً غَدَقا: ماءً مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِأَسْقَى. غَدَقًا غَزيرًا دافِقًا، وَخَصَّ الْماءَ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْحَياةِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق