اقلام حرة

لي صديقة حبيبة عشنا طفولتنا الجميلة بين الكتب والحقول وسرد الحكايات للأطفال / بقلم عائشة خواجا الرازم

لي صديقة حبيبة عشنا طفولتنا الجميلة بين الكتب والحقول وسرد الحكايات للأطفال … وفرق بيننا الكون منذ عام 1967 لم أعرف أين حط بها القطار … قبل سنتين عثرت عليها في مؤتمر Women leaders في واشنطن دي سي واول لحظات العثور انني تضايقت من سيدة تعبق رائحتها بالدخان عن بعد دون رؤية يدها بسيجارة حيث التدخين ممنوع قطعيا ومن أراد التدخين يتوجه لمكان مغلق في وقت محدد وليس في أي توقيت … وكل سيدة تنوي التدخين تقول : Am going to commit a crime against myself….
أما هذه السيدة فقد حملت اسمي عن المائدة الطويلة وجلست بعيدا عنها لتلافي عبق النيكوتين وخمج الرائحة المركزة التي تهب من أنحاء محيط كيانها …
وأذكر أنني فجأة وكنا في الساعات الأولى لافتتاح المؤتمر أنني قرأت اسمها على لوحة اسمها أمامها وكانت تتحدث بطلاقة اللغة الإنجليزية ولكنها عربية وبالتأكيد.صديقة ورفيقة الطفولة في أريحا حيث الربوع والحمضيات والمرح والبراءة ولا يمكن أن تضيع ( نورا مصطفى الديري ) … قرأت Nora Dery ….
فحدقت بها وبوجهها إنها نورا …
نورا ….
ولم تحدق بوجهي رغم أني بقيت أحرك لوحة اسمي وأرفعها تارة وأرتبها هندسيا تارة أخرى …
وحينما حل دوري بقراءة ورقتي كررت اسمي مرتين Aisha Khawaja Razem
وقلت مرتين بالعربي : د. عائشة الخواجا …لأنها لا تعرف اللقب الثالث ربما …
لكن نورا لم تعرني انتباها ولم تنبهر وتصرخ أو تقفز عن مائدة الحوار وتحط على روحي وتحتضنني وتجهش بالبكاء ….
انكسفت واستحيت … وبعد انتهائنا من الجلسة الافتتاح الأولى توجه الجميع لتناول القهوة … وتعمدت أن لا أقف قريبا منها لا لنفس رائحة عبق التدخين الفائح من اطراف قميصها وعنقها وشعرها وكتفيها … بل لأني.شعرت بصدمة الغربة والاغتراب التي قتلت قلب طفلة وهجها لما يزل في بين حقول وبيارات البرتقال والبومل والكلمنتينا والليمون حيث كنا نجمع حياتنا على تراب وطن لن يغادرنا في موجة العمر حتى لو عشنا سنوات نوح …
كنت أتبادل الحديث مع بروفسورة صربية اسمها الكسندرا ديكونوفا وهي نائبة رئيس مجلس النواب في الجبل الأسود وكنا نتحدث عن ورقتي التي تركزت على المرأة الفلسطينية ونضالها ومرابطتها واستشهادها … وكنت اتعمد رفع صوتي لتسمع الدكتورة نورا وتوليني الاهتمام على الأقل …
كانت الكسندرا مدخنة ثقيلة فاستأذنت وتوجهت لمكان التدخين المحبوس في الفندق …وتوقعت أن تلحقها نورا لالتهام السجائر من مبدأ المثل العربي ( كلوا رزقكم قامت القيامة ) وفجأة ودون سابق إنذار ارتفع صوت عبر الميكروفون داخل قاعتنا للجلسات … وعم الصمت من جميع المشاركين والمشاركات ورئيسة المؤتمر ماري لوبيز رودريغز …
سمعت اسمي يتردد وكأنني في حلم أو تهيؤ أو تخيل … توجهت الأنظار نحوي وابتسامات ورضا وإعجاب وبعض دموع في أعين الحضور الذين كانوا يمسكون بأيديهم أكواب القهوة وينظرون نحوي … نحوي … أنا …
بعض عبارات نمت من شخصيات نسوية مشاركة Oh That’s Unbelievable…
وبعض عبارات Oh Gosh…What a great moments in life !!!
كانت د. نورا قد اتفقت مع المشاركين والمشاركات بعد أن رأتني بعد نيف وأربعين سنة …بأن تجعل من لقائنا مناسبة لقاء الشتيت بالشتيت في المؤتمر … وبما يتماشى ويتناسب مع ورقة عمل نورا وعائشة …تحدثت عن طفولتنا وحياتنا وغربتنا وضياع لقيانا …بكى بعض الحضور علنا …وهيمنت الحالة العاطفية …
أقبل الجمع علينا ونحن في زوغان دموع … واحتضنت نورا واحتضنتني ولم أشم رائحة دخان نيكوتين في طيات حياتها بل عم اريج وطني وبرتقال طفولتنا وبعض بكائيات حارة النويعمة حول شهداء كانوا ينامون أمام بيتنا في ظلال نكسة حزيران ونحن أنا ونورا نقدم لهم جرار الماء ليشربوا هنيئا مريئا … دون أن ندرك أنهم رحلوا منذ لحيظات وهم عطاش …
قالت : تعالي نذهب إلى غرفة المدخنين لنلتهم سيجارة اللقاء العجيب …
نظرت إليها وقلبي ينكسر فأنا أمرض أو أموت من الدخان ولا اسمح لكائن من كان أن يدخن أمامي او بحضوري …ولكن …
قلت وأنا امسك بيدها : تعالي …هيا نذهب …
دخلنا غرفة القرف والمرض والسموم النتنة وكانت مدلهمة الظلام وكابسة على الأنفاس والروح والعظام …
استعجلت نورا بإشعال سيجارة لي … فتناولتها وأنا اعتذر بأني لا يمكن بسبب حقدي وكراهيتي وعدائي ومرضي المزمن تجاه التدخين …
نظرت في وجهي وهي تنفث ريح السيجارة على يمينها …ثم أطفأت سيجارتها بأسرع من ومضة برق لاسعة وقالت : تعالي نهرب من هون بسرعة …
فوجئت … لا بل وصدمت لتحدثها العربية وهي الأمريكية ذات اللكنة العربية الثقيلة ثم قلت : نورا … بتحكي عربي كويس غير اللي سمعته منك قبل شوي … بعدين كملي سيجارتك …
قالت : لا حبيبتي لن أدخن أمامك أبدا …وهربنا …
وها نحن نحارب … ونحارب التدخين …كلانا … نتنشق رائحة برتقال فلسطين الذي أشمه على اكمام قميص نورا …

مقالات ذات صلة

إغلاق