مقالات

لا تقاوم – بقلم الدكتور كمال الحسيني

لا تقاومimage
ذات يوم دخل الجزار حظيرته الممتلئة بقطيع من الخراف، عندئذ أدركت ” الخراف ” بحسها الفطري أن الموت قادم لا محالة، فقد وقع إختيار الجزار على كبش، أمسك به ليسحبه خارج الحظيرة لذبحه, وبالرغم من قوة ذلك الكبش إلا أنه شعر برهبة الحدث، وجبن الموقف وهو يقاد إلى الموت، فنسي الوصية رقم واحد من دستور القطيع، وهي أيضاً الوصية الوحيدة “حينما يقع عليك اختيار الجزار فلا تقاوم فهذا لن ينفعك بل سيغضبه ويعرض حياتك وحياة أفراد القطيع للخطر”. قال الكبش في نفسه تلك وصية باطلة في دستور غبي لا ينطلي حتى على قطيع من الخنازير، فإذا كانت مقاومتي لن تنفعني في هذا الموقف، فلن تضرني، فانتفض الكبش، واستطاع أن يهرب من بين يدي الجزار ليدخل وسط القطيع، ولم يكترث الجزار بما حدث كثيراً، فالحظيرة مكتظة بالخراف ولا داعي لإضاعة الوقت في ملاحقة ذلك الهارب. أمسك الجزار بخروف آخر وجره من قرنيه وخرج به من الحظيرة للمسلخ، وكان ذلك الخروف مستسلماً ولم يبد أية مقاومة، وقد نال ذلك الخروف إعجاب جميع أقرانه، حيث كانت جميعها تثني عليه بصوت مرتفع وتهتف باسمه، حتى قاطعها صوت الجزار وهو يقول: “بسم الله .. الله أكبر”، حينئذ خيم الصمت على أفراد القطيع، فقد وصلت رائحة الموت إلى الحظيرة، ولكن سرعان ما عاد القطيع إلى أكلهم وشربهم مستسلمين لمصيرهم الذي يرفض أي فكرة للمقاومة، وهكذا بقيت الخراف في الحظيرة تنتظر الموت واحداً تلو الآخر. كان الجزار إذا وجد خروفاً هادئاً مطيعاً فإنه يأخذ معه خروفاً آخر، وكلما زاد عدد الخراف المستسلمة زاد طمع الجزار في أخذ عدد أكبر، حتى وصل به الحال أن يمسك خروفاً بيده وينادي خروفين أو أكثر لتسير خلف هذا الخروف إلى المسلخ، وهو يقول: “يالها من خراف مسالمة، إنها فعلاً تستحق الاحترام”. كان الجزار يتجنب أن يذبح خروفاً أمام الآخرين حتى لا يثير غضبها، وخوفاً من أن تقوم تلك الخراف بالقفز من فوق سياج الحظيرة والهرب بعيداً، ولكنه حينما رأى استسلامها المطلق، أدرك أنه كان يكلف نفسه فوق طاقته، وأن خرافه تملك قناعة بمصيرها المحتوم، فصار يجمع الخراف بجانب بعضها، ويقوم بحد السكين مرة واحدة فقط ، ثم يقوم بذبحها، والبقية منها تشاهد من سبقت إليهم سكين الجزار، وكانت الوصية الوحيدة في دستور القطيع تقف حائلا أمام أياً منهم يحاول المقاومة أو الهرب. في المساء وبعد أن تعب الجزار وذهب لأخذ قسطاً من الراحة ليكمل في الصباح ما قد بدأه ذلك اليوم، كان الكبش القوي قد فكر في طريقة للهرب من حظيرة الموت وإخراج بقية القطيع معه، وكانت الخراف تنظر إليه وهو ينطح سياج الحظيرة الخشبي مندهشة من جرأته وتهوره، ولم يكن ذلك الحاجز الخشبي قوياً، فقد كان الجزار يعلم أن خرافه أجبن من أن تحاول الهرب. لم يكد يصدق الكبش القوي عينيه عندما وجد نفسه خارج الحظيرة، حتى صاح في رفاقه يحثهم على الخروج والهرب معه قبل أن يطلع الصباح، ولكن كانت المفاجأة أنه لم يخرج أحد من القطيع، بل كانوا جميعاً يشتمونه ويلعنونه، ويرتعدون خوفاً من أن يكتشف الجزار ما حدث، وقد وقف ذلك الكبش الشجاع ينظر إلى القطيع في انتظار قرارهم الأخير بالخروج من الحظيرة والنجاة بأنفسهم من سكين الجزار، وقد جاءه القرار النهائي بالإجماع مخيباً للآمال. في صباح اليوم التالي جاء الجزار إلى الحظيرة ليكمل عمله، فكانت المفاجأة الأولى حيث وجد سياج الحظيرة مكسوراً، بينما القطيع موجود داخلها و لم يهرب منه أحد، ثم كانت المفاجأة الثانية حينما رأى في وسطها خروفاً ميتاً، وكان جسده مثخنا بالجراح وكأنه تعرض للنطح، فصاح الجزار ” إنه ذلك الكبش القوي الذي هرب مني يوم أمس”. نظرت الخراف إلى الجزار بعيون الأمل ونظرات الإعتزاز والفخر بما فعلته مع ذلك الخروف “الإرهابي” الذي حاول أن يفسد علاقة الجزار بالقطيع، وكانت سعادة الجزار أكبر من أن توصف، حتى أنه صار يحدث القطيع بكلمات الإعجاب والثناء ” كم افتخر بكم وكم يزيد احترامي لكم في كل مرة أتعامل فيها معكم، وتقديراً مني لتعاونكم منقطع النظير، قد قررت بداية من هذا الصباح، أنني لن أقدم على سحب أي واحد منكم إلى المسلخ بالقوة كما كنت أفعل من قبل، فقد اكتشفت أنني كنت قاسياً عليكم، كل ما عليكم فعله يا خرافي الأعزاء أن تنظروا إلى تلك السكين المعلقة على باب المسلخ، فإذا لم تروها معلقة فهذا يعني أنني أنتظركم داخل المسلخ، فليأت واحداً تلو الآخر وتجنبوا التزاحم على الباب”.!

مقالات ذات صلة

إغلاق