اقلام حرة
ومات صابر كتب شفيق التلولي
ومات صابر
كتب شفيق التلولي
لست كائناً فيسبوكياً أجيد الكتابة على اللوحات السوداء وأعرف أن صفحات الفضاء الأزرق قد أمطرتك بكل آيات العزاء، لكنني أحاول أن أتنقل بأصابعي أتحسس تلك الأزرار متلمساً الحروف التي لن تعيد “صابر أبو اللبن” إلى الحياة.. حياة المخيم، هناك بين الزقاق وعبق المكان المجبول بحكايات جباليا الثورة وصور المخيم.
مخيم جباليا الذي طِرتَ منه إلى لبنان يوم أن لبيت النداء ولم تكمل الحلم بعد؛ فلم يكتمل الحلم ولم تعانق البندقية هناك حسب قانون وحيد الأبوين، مضيت بين أزقة المخيم تبحث عن دروب النضال.
في المعتقل هزمت بروحك الدافئة برودة الجدران الصماء، نقشت اسمك على حيطان الزنازين، كتبت بالقيد أنشودة الحرية والخلاص، ورسمت على محياك ابتسامة هادئة لن تغيب.
كان عليّ أن أنعي “أنور مليحة” قبيل أن تصعد إليه وترقد بجواره حيث ملتقى الأرواح؛ لكنك استبقتني بما سطرت من أبيات الرثاء، وقتئذٍ أحسست بأن الساعة تقترب من لحظة أكره فيها الفراق؛ فعزفت عن عزاء “أنور” وجلست متسمراً أقرأ ما كتبت من مصر حيث رقدتك المرضية هناك:
“عشت من اجل الفرح فلا تضعوا ملاك الحزن على قبرى”
كان عليّ أن أحتفظ بشريطٍ غنائيّ “لأم كلثوم” جمعني بأنور ذات مساء شقيا، وأن أكتب في رحيله ما كنا نردد معها:
“أنا وانت اللي كنا زمان أحب اتنين وأحن اتنين وكان أكبر خصام بينا يادوب في يومين”
أتذكُر يا صديقي؟ يومها كانت تتعالى ضحكاتك من بيتك المجاور لبيت “أنور” وتتمتم:
“غنوا يا أولاد وافرحوا فما زلتم صغارا” مع أنك لا تكبرنا بكثير.
كان عليّ أن أحتفظ بحفنة تراب من أثرك في المخيم قبل أن يغمره الإسفلت؛ أسجل عليها دروب الصبا الوعرة في ليالي الشتاء، كما كان عليّ أن ألتقط لك صورة في زنزانة “عشرينية” تشق ابتسامتك الجميلة عتمتها؛ لعليّ أنشرها اليوم في مشهد الغياب الحافل بصور العزاء.
أو ربما كان عليّ أن ألتقط لك صورة تحت نخلة بيتك في غزة التي تدلى منها البلح الأحمر يوم الوداع الأخير غير أن ابتسامتك التي قطعت الألم بعد أن حط فصل الشقاء حالت دون أن أظهرك واهناً أتعبه المرض، وآثرت مناشدة ذوي الشأن بصرخة دون صورة تفسد هذه الابتسامة الصابرة الصامدة المحتسبة الهادئة والنقية.
كان عليّ أن أحفظ من صورك ما يليق بهذا الرثاء، لكنني لا أبحث عن سبق فيسبوكي، بل أكره الموت والفراق وكل أبيات العزاء، ليت ما سُجل عنك من سجايا وخصال شفع لك من هذا المرض، وأنقذ حياتك لكن قدر الله وإرادته سبقت كل الكلمات، ليتنا نجيد لعبة الحياة كما نجيد لعبة الموت، ليتنا نتقن لغة الفرح كما نتقن لغة الحزن والألم، ليتنا نكتب عن الأحياء كما نكتب عن الأموات.
صابر مات مسكيناً..
فأين كنا منه وأين هو الآن، بل أين نحن مما هو آت؟!
مات كغيره باكراً ممن كانوا رفاق الصبا في المخيم!!
سلامي لهم جميعاً يا صابر وارقد بجوارهم بسلام.