عواصم ثقافيه
الانزلاق نحو الجهاد
استطاع رشيد توغرال جذب جمهور من المتابعين على الإنترنت بفضل صوره الأخاذة لسماء بلاده تركيا في الليل. شارك صوره -مثل صورة لشجرة عرعر وفي الخلفية مجرة درب التبانة تتلألأ في ظلمة الليل- التي نشرت على موقع ناشيونال جيوغرافيك. التحق ببرنامج دراسي جامعي مرموق لدراسة الفيزياء الفلكية في فنلندا. هو شخص ذكي وأنيق ومغامر جرئ وبدا وكأنه مقدر له أن يمضي عمره في دراسة الأجرام السماوية.
إلا أن توغرال كان يتوق لما هو أكبر. نشأ في بيت مسلم محافظ، وانجذب للمواقع الجهادية عندما كان في الجامعة. اقتنع توغرال بتفسيرات تلك المواقع للدين الإسلامي. في وقت مبكر من عام 2015، ترك عائلته والحياة المريحة، ليلتحق بجهاديي داعش الذين يقاتلون في سورية.
وفي أواخر أغسطس/آب كان توغرال قد قتل في معارك التنظيم ضد القوات الكردية، ولم يكن عمره سوى 27 عاما.
لقد أغوى إعلام داعش آلاف الشباب المسلمين واستدرجهم ليسافروا إلى العراق وسورية ليقاتلوا تحت راية الخلافة المزعومة. هناك الآلاف مثل توغرال الذين اختاروا ترك الحياة الطبيعية والأمل. إلا أن قصته تبرز بشكل مميز من بين آلاف القصص نظرا للسجل الحافل الذي تركه ورائه، والذي يزدحم بالقصص المكتوبة والمصورة التي توثق رحلة تحوله نحو العنف التي استغرقت أكثر من عقد من الزمان.
وعلى مر السنين، استمر توغرال بنشر صور مميزة مثل صور شخصية له أو قطط تلهو أو مناظر سماوية أخاذة، بالإضافة إلى حبه للفضاء وتدينه وتصديه لغير المؤمنين. وفي رسالة مفصلة نشرت على الإنترنت السنة الماضية، أعطى تسلسلا زمنيا يوميا لتجربته مع داعش: أوقات النوم والتدريب وتفادي الضربات الجوية. لقد دافع بكل صفاقة عن أبشع ممارسات داعش البربرية، بما في ذلك قطع الرؤوس واستعباد النساء جنسيا.
“من مات بدون أن يجاهد أو يفكر في الجهاد فقد مات منافقا”، هكذا كتب توغرال على صفحته على فيسبوك مستذكرا حديثا منسوبا للرسول محمد. ويقول العلماء المسلمون البارزون في هذا المجال مثل محمد عبد الفضيل أن المتطرفين يحرّفون الدين ومعنى الجهاد، وفي الحقيقة أن الإسلام يدين الإرهاب ومهاجمة المدنيين الأبرياء.
ما الذي جرّ توغرال إلى ذلك الدرب الذي يفضي إلى التطرف والنهاية الدموية؟ قام فريق من صحفيي (صوت أميركا) بالبحث عن أجوبة من خلال مراجعة مشاركات توغرال على مواقع التواصل الاجتماعي والرسالة التي كتبها بعد وصوله إلى سورية، والمؤلفة من 14 صفحة. قام الفريق بترجمة كل تلك المواد من اللغة التركية، كما قام بإجراء مقابلات مع أصدقاء الشاب وعدد ممن عمل معهم بالإضافة إلى مقابلة قصيرة مع والده.
لم يكن الجهاد في حياة توغرال منذ البداية. كما لم يكن جزءا من تفكيره أو فضوله المعرفي. حياته ومماته يقدمان لنا حالة مأساوية تدفعنا لدراسة المجد الخادع الذي يعد به داعش كل من يلتحق بصفوفه من شباب المسلمين الذين يقعون في حبائله.
نشأ توغرال في عائلة محافظة وترتيبه الثاني من بين ثلاثة أطفال. عاشت العائلة في منطقة سنكان في العاصمة التركية أنقرة وعرف عنها اهتمامها بالتعليم والدين. يحمل والده شهادة الدكتوراه في الأدب التركي، ويعمل مدرسا في مدرسة ثانوية. أخوه الأكبر مهندس برمجيات ومؤلف موسيقي. أما الأخت الصغرى فهي طالبة، وعمه بروفسور في الرياضيات.
سليمان توغرال الأب، كتب في مدوناته عن الإسلام بين 2008 و 2014، كما نشر انطباعاته المحافظة بالإضافة إلى الشعر. بالإضافة إلى ذلك، فقد كتب عن موضوع شهادة الدكتوراه التي حصل عليها والتي كرسها لموضوع “نظام القيمة في القرآن”، والتي ساند فيها الجهاد المتطرف ووصف اليهود والمسيحيين بأنهم ملعونون لعدم إيمانها بالله والرسول. كتب يقول “ينتظرهم عقاب مؤلم”.
قام وزوجته ربة البيت بتسجيل رشيد في مدرسة خاصة لتعليم القرآن عندما كان طالبا في الثانوية، وهو تقليد متبع في العوائل المتدينة.
عبقري جامح – في أواخر عام 2007 دخل توغرال جامعة الشرق الأوسط التقنية التي تعتبر هارفارد تركيا لدراسة الفيزياء. تقدم هذه الجامعة موادا تتضارب تماما مع حياة توغرال الأسرية، كما يقول زميله نهاد تشيلك الذي كان واحدا من عدة أشخاص ساهموا في التثبت من صحة كتابات توغرال ومنشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي. “كان يقضي نهاره في الدراسة في بيئة ليبرالية، ولكن في المساء هو بين أحضان أسرته المتدينة والمحافظة. من غير الممكن الدمج بين هذين التوجهين المتضادين في مجال واحد،” يقول تشيلك.
عرف في كليته بولعه بالتصوير والفلك. وفي بعض الأحيان اللهو الذي يفتقد للتعقل. “كان عبقريا. كان يسأل أسئلة مهمة للغاية”، قال أحد أساتذته الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لأسباب أمنية. إلا أن توغرال “لم يكن أفضل الطلاب لأنه كان يتغيب كثيرا عن المحاضرات وافتقر للانضباط”، انضم الطالب توغرال لمختبر الجامعة. ونشأت بينه وبين مدير المختبر أوتلوك بوراتاش صداقة. درسا سويا السماء في الليل في رحلات برية قاما بها. وقال بوراتاش لـ (صوت أميركا) أنهما ساعدا في تنظيم نشاطات عامة للمرصد الوطني.
بدأ توغرال بنشر صوره على حسابه في صفحة أعضاء موقع ناشيونال جيوغرافيك عام 2010. ونافس عام 2012 في مسابقة تصوير لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) لتحسين صور التقطها تيلسكوب مرصد الفضاء هابل. كان اسمه المستعار على الإنترنت “القط النووي” والذي يجسد هوسه بالقطط والتصوير.
انعزالي “مجنون”
مسلٍ، وفي بعض الأحيان غريب الأطوار، توغرال “كان يطلق النكات على كل شيء ويسخر من اي شيء”، قال أحد زملاء دراسته الذي طلب عد الكشف عن هويته لتخوفه من إشهار معرفته بتوغرال. قال زميل الدراسة “ذات مرة، جاء إلى الكلية بسراويل ضيقة، ومرة ببنطلون رياضة قصير وبدون قميص”.
كان توغرال أيضا راكب دراجات ورحّالة وسباح، وكثيرا ما يتحدى نفسه جسديا. يقول زميل دراسته أنه في ذات مرة “كان يشعر بالملل فركب الدراجة من أنقرة إلى كونيا (جنوب تركيا)” علما أن المسافة بين المدينتين هي 262 كيلومترا.
”معظم الناس يقولون عني أنني مجنون، ولكنهم يتوقون ليكونوا مثلي لأنني ببساطة أقوم بما يحلو لي فعله. وتجربة ركوب الدراجات أحد تلك الأشياء”، كتب توغرال على صفحة الضيوف في موقع كوتش سيرفنغ. “أحب الضحك وأن أجعل من حولي يضحك (رغم أنني أبكي أحيانا) لكن الناس من حولي ليسوا كذلك… هم يشعرون بالملل معظم الوقت”
الانجرار نحو التطرف
في جامعة الشرق الأوسط، ظل توغرال مسلما ملتزما ولكنه خالط الناس بحرية حتى أولئك الذين لم يشاركوه حماسه في ممارسة الصلاة والصوم والابتعاد عن المشروبات الكحولية.
أحد أصدقاءه الذي طلب عدم كشف هويته خوفا من استهداف المتشددين تذكّر أنهم “ذات مرة كنا نشرب الكحول” وأن توغرال “لم يشرب مثلنا، إلا أنه بدأ بالسخرية من نفسه لعدم تناوله المشروبات الكحولية”.
عام 2013، شارك في تظاهرات ضد الحكومة وبدأ يهتم بالأمور الدينية بشكل أكبر بحسب صديقه بوراتاش.
بدأ توغرال بعد ذلك بالابتعاد تدريجيا عن المناخ الليبرالي في الجامعة، وأطلق لحيته وشعر رأسه على شاكلة مقاتلي داعش. قال على فيسبوك أن “الشيوعيين في جامعة الشرق الأوسط التقنية يبدأون بالضحك حالما يرونك تحيي أخاك بملامسة جبهة الرأس”.
لم يكن تركيز توغرال منصباً على التحصيل الأكاديمي بشكل كبير، واستعاض عنه بملازمة مسجد النور في مدينة يوفاسكولا.
وصرح أحد شركاء توغرال في السكن، أنبو بوساكانو، لصحيفة بيرغين التركية “لم يكن يحضر الصفوف الدراسية فقد أمضى معظم وقته في المسجد أو متصفحاً للإنترنت حين يكون متواجداً في المنزل”.
وأضاف بوساكانو أن توغرال “غالبا ما أعرب عن رغبته بالإنضمام إلى الدولة الإسلامية (داعش)”.
لم يتمكن (صوت أميركا) من الوصول إلى بوساكانو لإجراء حديث معه.
وقال زميله بوراتاك، وهو طالب علم الفلك في “جامعة الشرق الأوسط التقنية” لـ (صوت أميركا)، إنه سبق أن مازح زميله بشأن لحيته “سألته ممازحاً: كيف سمحوا لك بدخول فنلندا بهذه الهيئة؟ ألم يسألوك إن كنت تنوي الذهاب للجهاد؟”
وتابع بوراتاك أن توغرال أجابه حينذاك “هم يصدرون أحكامهم عليك هنا بحسب نواياك وليس بحسب شكلك”.
إلا أن تصرفات الطالب في السنة الجامعية النهائية كانت تثير الشبهات، بحسب الصحيفة التركية التي أوردت أن السلطات الأمنية الفنلندية كانت فتحت تحقيقاً مع توغرال في أواخر 2014.
وجاء في التحقيق الصحفي نشرته صحيفة (نيوزويك) أن الشرطة استجوبت توغرال خارج الحرم الجامعي “بعد أن لفتت منشوراته على فيسبوك انتباهها”.
وأكد إمام الجامع خالد بيلامين لـ (صوت أميركا) أن عناصرا من الأمن الفنلندي تواصلت معه بِشأن توغرال، إلا أنه قال إنه لم يلتق “توغرال شخصياً، كما أن لا أحد من المجتمع (مرتادي المسجد) هنا كان يعرفه”.
وأضاف بيلامين “من خلال مشاهداتنا، كان يرتاد المسجد في أوقات متأخرة ولم يكن يتحدث إلى أحد”.
الدراسة في فنلندا
تخرج توغرال من جامعة الشرق الأوسط عام 2014. في خريف ذلك العام، انضم لبرنامج لدراسة الماجستير في الفيزياء في جامعة فنلندية. بدا عليه الارتياح لتغيير المكان والأجواء، فقد كتب على فيسبوك “من المؤكد أن كليتي الآن أفضل من الكلية السابقة”.
ونشر توغرال على صفحات مواقع التواصل صورا للبلد الاسكندنافي وخريفه الملون مع صور للقطط والسناجب وحيوانات أخرى.
لم يكن تركيز توغرال منصباً على التحصيل الأكاديمي بشكل كبير، واستعاض عنه بملازمة مسجد النور في مدينة يوفاسكولا.
وصرح أحد شركاء توغرال في السكن، أنبو بوساكانو، لصحيفة بيرغين التركية “لم يكن يحضر الصفوف الدراسية فقد أمضى معظم وقته في المسجد أو متصفحاً للإنترنت حين يكون متواجداً في المنزل”.
وأضاف بوساكانو أن توغرال “غالبا ما أعرب عن رغبته بالإنضمام إلى الدولة الإسلامية (داعش)”.
لم يتمكن (صوت أميركا) من الوصول إلى بوساكانو لإجراء حديث معه.
وقال زميله بوراتاك، وهو طالب علم الفلك في “جامعة الشرق الأوسط التقنية” لـ (صوت أميركا)، إنه سبق أن مازح زميله بشأن لحيتهز “سألته ممازحاً: كيف سمحوا لك بدخول فنلندا بهذه الهيئة؟ ألم يسألوك إن كنت تنوي الذهاب للجهاد؟”
وتابع بوراتاك أن توغرال أجابه حينذاك “هم يصدرون أحكامهم عليك هنا بحسب نواياك وليس بحسب شكلك”.
إلا أن تصرفات الطالب في السنة الجامعية النهائية كانت تثير الشبهات، بحسب الصحيفة التركية التي أوردت أن السلطات الأمنية الفنلندية كانت فتحت تحقيقاً مع توغرال في أواخر 2014.
وجاء في التحقيق الصحفي نشرته صحيفة (نيوزويك) أن الشرطة استجوبت توغرال خارج الحرم الجامعي “بعد أن لفتت منشوراته على فيسبوك انتباهها”.
وأكد إمام الجامع خالد بيلامين لـ (صوت أميركا) أن عناصرا من الأمن الفنلندي تواصلت معه بِشأن توغرال، إلا أنه قال إنه لم يلتق “توغرال شخصياً، كما أن لا أحد من المجتمع (مرتادي المسجد) هنا كان يعرفه”.
وأضاف بيلامين “من خلال مشاهداتنا، كان يرتاد المسجد في أوقات متأخرة ولم يكن يتحدث إلى أحد”.
وقبل أن يغادر توغرال فنلندا خلال فترة عطلة الجامعة الشتوية في الجامعة، قام بتقديم كاميرته الرقمية الخاصة به إلى كاتدرائية هلسنكي و فندق 7 فيلس في منطقة لابلاند لأن مالكها “كان مصوراُ محترفاً مثلي”، بحسب ما كتب على صفحته على موقع فيسبوك.
خدعة، ثم رحلة جوية
عاد توغرال إلى منزل عائلته في أنقرة لاستخدامه محطة على طريق الخوض في الجهاد بشكل أكثر عمقاَ. وقال لوالديه إنه يخطط لقضاء ليلة 10 كانون الثاني/يناير 2015، مع الأصدقاء في الجامعة. ولكنه، عوضاً عن ذلك، حزم حقيبة ظهر خفيفة واتجه إلى سورية.
وكتب توغرال لاحقاً “قبل المغادرة، توكلت على الله”.
بينما كان يهم بالصعود إلى متن حافلة صغيرة “أدركت أنني نسيت الكاميرا”، كتب لاحقاً. وكان قد حملها في كل مكان، موثقا صور السماء، محيطه وتحوّلاته. إلا أنه رأى لاحقاً أن هذا الأمر “لا أهمية كبرى له”.
العبور إلى سورية
بهذه العبارات وصف ما حدث معه لاحقاً في سورية. ورد توغرال في رسالة طويلة كتبها على مراحل عندما لم يكن لديه إمكانية استخدام الإنترنت والدخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي في سورية.
وقام بنشرها من خلال رابط فيسبوك في 25 آذار/مارس 2015 تحت عنوان “تحية من أرض الخلافة”.
في مدينة سانليورفا الحدودية الواقعة جنوب شرق تركيا، التقى توغرال برجال قادمين من تونس وليبيا والمملكة العربية السعودية ممن يريدون القتال إلى جانب الدولة الإسلامية وعبروا معا بشكل غير قانوني إلى سورية. “جرينا لفترة طويلة. كان من الذكاء أني لم أحمل حقيبة ثقيلة”، كتب توغرال مهنئا نفسه.
ثم جمعهم رجل أفغاني ذو شعر الطويل- وكان عنصرا في داعش- وقادهم تحت راية داعش سوداء ضخمة نحو بلدة تل أبيض السورية. ودخل الجميع بيتا مضاء بالشموع. ثم صودرت جوازات سفرهم، والأجهزة الإلكترونية، وجميع متعلقاتهم الأخرى. إلا أن توغرال تمكن من إقناع أحد مقاتلي داعش بمنحه بضع دقائق إضافية لإرسال بريد إلكتروني إلى عائلته عبر هاتفه النقال.
“وكان من الصعب جدا استعمال الإنترنت بسبب سوء الشبكة”، كما كتب، مبينا أن هاتفه صودر قبل أن يتمكن من إرسال كل رسائل البريد الإلكتروني التي أراد إرسالها. “أين أنا ذاهب؟ بدأت أتساءل في نفسي، ولكن لا يهم”.
استجوب تنظيم داعش جميع الوافدين الجدد. ومنح كلا منهم لقبا جديدا. كتب توغرال” كان لقبي، بطبيعة الحال، أبو هريرة”.
الأخوّة والملل
بعد أيام، تم نقله إلى منزل آخر. كانت جدران المنزل مليئة بآثار الرصاص. “لربما كان قد أخذ كغنيمة حرب”، كتب توغرال. كان البيت يأوي حوالي 20 شخصا. وأشار توغرال إلى تنوعهم واستعدادهم لدعم داعش. كان أحدهم لاعب كيك بوكسينغ محترف في ألمانيا وكان آخر مهندس ميكانيك من بنغلاديش. كما أن رجلا آخر كان قد قدم مباشرة بعد خروجه من سجن فرنسي. ودفع أحد أولئك الرجال مبلغ 15.000$ للسفر إلى سورية من الصين.
بعد بضعة أيام، استقل توغرال وثمانية مجندين جدد آخرين حافلة صغيرة كانت متجهة إلى الرقة، عاصمة داعش المزعومة. “أراك في الجنة،” هكذا ودع الرجال اللذين كانوا يسكنون سويا في المنزل بعضهم البعض بفرح، بحسب توغرال.
قام توغرال باستكشاف الرقة بينما كان منتظرا بفارغ الصبر تلقي دروس الشريعة واللياقة البدنية المطلوبة قبل القتال. كانت المدينة “كبيرة ومزدحمة. … استمر الناس في العيش بطريقة طبيعية دون قطع الرؤوس”، لفت في رسالته.
وأضاف “إن الجانب الأجمل في الدولة الإسلامية (داعش) هو حظر التدخين في كل مكان”. لكنه اشتكى من الدخان الناجم عن “احتراق زيت الديزل في كل مكان”، في الدراجات النارية والتدفئة.
قضى توغرال أسبوعين في الرقة مع المجندين الأجانب الآخرين في منزل بارد في ظل شح في المياه والطعام، ولم يكن هناك أكثر من البيض ليعتاشون عليه. كان لديه التهاب في الحنجرة، إلا أن الشكوى كانت بسيطة مقارنة مع الضربات الجوية المخيفة التي هزت الأبواب والنوافذ ” كما لو أنها رياح قوية. … كنا في كل لحظة نواجه الخوف من سقوط قنبلة على رؤوسنا”.
الاستعداد للحرب
على مدى عدة أشهر، تم نقل توغرال إلى عدة منازل في الرقة أو بالقرب منها ومن ثم في حمص. واشتكى من ظروف العيش بسبب البرد والازدحام والقذارة. “كنا تقريبا 30 شخصا ننام في غرفة واحدة، كما كانوا يجلبون المزيد من الناس باستمرار”، كتب في رسالته.
حتى أن مسكنه في وقت ما كان بدائيا للغاية: كهف، على الرغم من أن عناصر داعش كانوا قد جهزوه بأسرة الاسفنج وغسالة ومولد للطاقة. “كان هناك أيضا العديد من الأشياء التي صودرت كغنائم”، كما كتب، بما في ذلك بطانيات عليها شعار الأمم المتحدة كان من المرجح أنها أرسلت للاجئين.
بدأ تدريب توغرال البدني في اليوم الأول في الكهف، حيث كان المجندون ينفذون حركات مثل القفز والزحف في الوحل. كان يرتدي سترة وسروالا اشتراهما في فنلندا. كتب توغرال “لم أكن أريد أن ازحف في الوحل معهم، ولكن كان علي فعل ذلك”، ناصحا الوافدين الجدد بجلب ملابس مموهة.
وكان مهندس مدني بريطاني وابنه من ضمن نزلاء الكهف أيضا. أضاف توغرال “كانوا يعرفون عن الكوكب بعض الشيء. أما أنا فبدأت الشرح لهم دون أن أنتظر سؤالا”. على الرغم من أن الكهف كان منارا بالكهرباء، كانت معظم المدينة مظلمة، بحيث لا يحجب الضوء النجوم.
“أستطيع أن أقول أن السماء صافية في كل مكان تقريبا في دولة داعش”.
الخوف من السماء
في كل مكان تقريبا، كان أعضاء داعش مطاردون بالضربات الجوية. كانت طائرات نظام الرئيس السوري بشار الأسد ” تحلق فوق رؤوسنا كل يوم. …انفجرت قنبلة جوية بالقرب منا وصمّت آذاننا وسببت حفرة كبيرة”.
تعب توغرال من العيش مثل رجال الكهوف. واعترف بمشاكل الحياة في مناطق داعش: مستوى النظافة المتدني وضعف التنظيم والدوافع المشكوك بها لدى بعض المجندين. لقد كتب أن مقاتلا من مولدوفا، كان سابقا مجندا في جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة قال له “بعض المجاهدين [الجهاديين] جاؤوا لمنافع دنيوية لأنهم يحصلون على مبلغ جيد من المال وعلى السكن من الدولة الإسلامية”.
ومع ذلك، أبقى توغرال على تصوره لمستقبل المدينة الفاضلة.
كتب توغرال “الدولة الإسلامية ليست دولة ممتازة. نعم، إنها دولة إسلامية ولكن أخطاء الناس ليست خطأ الدولة”.
وأضاف “لا تسير الأمور بشكل مثالي هنا. النظافة لا تحظى بأهمية كبيرة ولا يجري تطبيق أنظمة السير. إلا أننا سنحاول إصلاح كل شيء خطوة بخطوة، خاصة بمساعدة المهاجرين.” – المهاجرين كلمة مستعملة لوصف المقاتلين الأجانب لدى داعش.
دخول المعركة
بعد مكوثه في الكهف لمدة شهر على الأقل، تم اختياره بالإضافة إلى خمسة آخرين للانضمام إلى القوات الخاصة، ودعي للانضمام إلى مجموعة مقاتلة كان تنظيم داعش قد أسسها.
تحسنت الظروف فجأة، كتب توغرال. انتقلت القوات الخاصة إلى منزل خارج حمص. حصل كل شخص على بطانية جديدة. وعلى أكلات طاجيكية “وجبات طعام قريبة من ثقافتنا”، كما جرى ذبح شاة كل أسبوع لتوفير اللحوم. “كانوا يقدمون لنا الموز والبرتقال كل يوم تقريبا. كما كنا نحصل على ثلاث أو أربع قطع من حلوى سنيكرز كل يوم “.
في أول معركة له، كلف توغرال بتوفير الرعاية الطبية لأنه كان قد تلقى التدريب على إجراء الاسعافات الأولية عندما كان في الجامعة. كتب توغرال “لقد كنت أنا الطبيب”. وتابع “إن أدنى مستوى من المعرفة الطبية قد يأتي بالفائدة هنا”.
كتب توغرال “كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها صوت الرصاص على مسافة قريبة”.
بدأ وآخرون “الاختباء وراء التلال كما سمعنا أصوات الدبابات والمدفعية”. وبعد ساعات من الرياح الباردة والمطر، حصل على إذن بالانسحاب إلى خيمة بمثابة مستشفى ميداني كانت تحتوي قتيلين وستة جرحى. كتب توغرال ” كانت رائحة الدم في كل مكان”.
الدفاع عن الهمجية
بعد ليلة أخرى من القتال، عاد توغرال وزملائه الجهاديون إلى القاعدة “منتصرين” كما كتب في رسالته. اخذت دبابتين كغنائم، إلى جانب شاحنة خفيفة وبضع قذائف صاروخية “وثلاثة رؤوس مقطوعة”.
ودافع في وقت لاحق عن قطع الرؤوس في حوار على الفيسبوك مع زميله التركي في دراسة علم الفلك باروتاك، الذي سأله لماذا شارك مع “المجموعة التي تذبح الأبرياء وتقطع الرؤوس؟ هذا تصرف سيكوباتي”.
ورد توغرال إن ذلك كان مجرد عقاب عادل لمؤيدي النظام السوري، “الذين قتلوا الكثير من المدنيين الأبرياء”، ولـ “الرافضين” للسلطة الإسلامية “الذين أصبحوا عبيدا لأميركا”. كما دافع عن قيام جهاديي داعش بسبي النساء، الأيزيديات في الغالب.
وقال لبوراتاك إن لقطع الرؤوس هدفا استراتيجيا . كتب توغرال “هذه الأشياء للتلفزيون فقط بهدف إخافة الأعداء. عندما يرون هذا، سيخافون ويهربون”.
عروسة جهادية
في وقت ما في النصف الأول من شهر نيسان/أبريل من عام 2015، أصيب توغرال في اشتباك مع مقاتلين أكراد في بلدة تل أبيض الحدودية. ذهب إلى الرقة للتعافي من الإصابة التي لم يجر تحديدها.
في الشهر التالي، عقد توغرال قرانه على زيفرا التركي، إحدى المتعاطفات التركيات مع داعش، مفصلا في تعليق سابق نشره على فيسبوك التعويضات التي يتقاضها الجهاديون، بحيث يحصل غير المتزوجين منهم على أجرة شهرية تصل إلى 100 دولار مع بيت يتقاسمه كل ستة منهم، فيما المقاتلون الأجانب “يمهلون أربعة أشهر للزواج…الدولة الإسلامية تمنحك بيتاً بالإضافة إلى مخصصات مالية للزوجات والأطفال”.
بعد الزواج، لم يعد توغرال يتردد كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعي. حينها تواصل معه بوراتاك عبر صفحته على فيسبوك، مستفسراً عن سبب غيابه علَه يفلح في إقناعه بالعودة إلى تركيا. يضيف بوراتاك أن توغرال “قال إنه تزوج لتوه وبأن زوجته تغار عندما تراه يمضي وقتاً طويلا على صفحات التواصل الاجتماعي”. واستطرد قائلا لـ (صوت أميركا) “لم أستطع التمييز وقتها ما إذا كان جاداً في قوله أم كان يمزح”.
وبرغم تراجع تعليقاته على فيسبوك وتويتر، لكن حتى القليل منها الذي نشر يكشف اهتمامه المتزايد بالجهاد الراديكالي والتدين. فقد عبر عن معارضته للقصف الجوي الذي تنفذه الطائرات السورية والروسية وحتى قصف التحالف الأميركي، منزعجاً من سقوط قتلى في صفوف المدنيين. كما دعى لتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة “بدءاً بآداب الأكل وانتهاء بدخول دورة المياه”.
واللافت أن توغرال انتقد العرب السوريين الذين، وكما أوضح على فيسبوك، لا يجيدون تلاوة القرآن أو حتى إلقاء السلام على الطريقة الإسلامية “عندما أقول للناس العاديين في الرقة السلام عليكم، يجيبون: مرحباً، مرحباً. لقد سئمت من هذا الوضع”.
الكفار.. تذكرة للجحيم
لكن شغف توغرال القديم بالعلوم لم يختفِ تماماً، حيث ظل ينشر بعض صوره الأرشيفية المتعلقة بالفلك. كما واصل أيضاً تعليقه حول قضايا متنوعة تراوحت بين الجيولوجيا وشركات الأدوية، بالإضافة تعليقات جول قدرة الحاسوب التخزينية التي يمكن أن تكون لا متناهية مثل النجوم.
وفيما أشاد توغرال في حسابه على تويتر بأعمال بعض العلماء، مثل الأميركي الراحل المتخصص في الفيزياء النظرية ريتشارد فينمان، فإنه حث أيضاً على “اعتناق الإسلام قبل أن يداهمكم الموت”” ويبدو من خلال إحدى الصور أن توغرال التقى مرة بالفيزيائي الأميركي الحاصل على جائزة نوبل والتر كون. لكن بعد وفاة العالم عام 2015 غرد توغرال قائلا إن العالم غير المسلم “حجز تذكرته للجحيم، مع الأسف”.
وكان توغرال، حسب ما نقلته مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لداعش، قد لقي حتفه مطلع شهر أغسطس الماضي في اشتباكات مع القوات الكردية المدعومة أميركياً في شمال الرقة والتي كانت تقاتل التنظيم الإرهابي المتراجع في المنطقة.
وفي حوار مقتضب أجرته (صوت أميركا) مع والد الجهادي القتيل، سليمان توغرال، أشار الوالد أن وفاة ابنه أكدتها زوجته في مكالمة أجرتها عبر الهاتف مع العائلة. مضيفاً أن الجثمان سيدفن في سورية. ووفقاً لما قاله والد القتيل لصحفي (صوت أميركا) الذي زاره أواسط آب/أغسطس الماضي بشقته في أنقرة، حاول الوالد استعادة جثمان ابنه، حيث طالب السلطات التركية بالتحقيق في الأمر، قائلا “نحن لا نعرف كيف قضى. وقد أثرنا موضوع موته مع المدعي العام في أنقره. ولا نزال ننتظر الرد”.
لكن سليمان تحفظ عن الدخول في تفاصيل أكثر حول مقتل ابنه، بينما رفض باقي أعضاء العائلة طلبا لإجراء مقابلات صحفية
وكان آخر تعليق لتوغرال على فيسبوك ظهر بتاريخ 31 آب/أغسطس، بعد مرور شهر على مقتله، قال فيه “إذا انقطعت عن الكتابة هنا لفترة طويلة فاعلموا أن أجلي على هذه الأرض قد بلغ نهايته، وأني قد سرت إلى الحياة الآخرة. أدعوا أن يتقبلني الله مع الشهداء. هذه الرسالة ستظهر تلقائياً وأتمنى أن أراكم في الآخرة”.
وفيما تظل صفحة توغرال قائمة على فيسبوك، فإن حسابه على توتير قد تم إغلاقه، وهو ما أوضحه تويتر في رد على استفسار (صوت أميركا)، قائلا إنه منذ أواسط 2015 “قام بتعليق أكثر من 360 ألف حساب لإطلاقهم تهديدات، أو التحريض على أعمال إرهابية مرتبطة” بداعش.
وبحسب تقديرات صالح دوغان، الباحث التركي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والأمن بجامعة كيل البريطانية، يقدر “عدد الأتراك” الذين انضموا لداعش “بالآلاف”، وإن “كانوا ربما تأثروا بالفظاعات التي ارتكبها النظام في سورية”، موضحاً لـ (صوت أميركا) أن الدوافع تختلف باختلاف المجندين أنفسهم. فمنهم من تحركه الأيديولوجية الجهادية لنشأتهم في عائلات محافظة، أو لشعورهم بالظلم والاستهداف، أو بسبب تمردهم أوضاعهم السيئة أو البحث عن المكسب المادي.
ويضيف دوغان أنه “أمر سيء للغاية أن يسير هؤلاء الناس في تلك الطريق. والخلاصة هنا تتعلق بملء فراغ يشعر به الإنسان في داخله وفي عوالمه الوجدانية”.
وتظل العديد من الأسئلة حول توغرال تلاحق صديقه بوراتاك الذي تقاسم معه يوماً ولعه بعلم الفلك. فذات ليلة وهما يراقبان السماء، لمع ضوء لم يستطيعا تفسيره ليعتقد بوراتاك أنه من الأطباق الطائرة. لكن عندما أصاخ توغرال السمع وبحث في الأمر، “قال لي: لا يا مغفل، إنه قمر صناعي”. وأضاف “لقد علمني ألا أصل إلى خلاصات دون إجراء بحث”.
كل هذا يزيد فقط من حيرة بوراتاك الذي تساءل ما الذي جعل صديقه توغرال يسقط فريسة سهلة لدعاية داعش وفظائعها. “يدفعني هذا للتساؤل كيف بلغ هذه النقطة؟ لقد كان رجلا خفيف الظل ولم يأخذ أمراً قط بجدية. لكنه الرجل نفسه الذي انتهى به الأمر لأن يبرر قطع الرؤوس”.
وعن هذا الأمر يرى تشليك، أحد زملاء توغرال السابقين بجامعة الشرق الأوسط التقنية بأنقرة (METU) أن صديقه عجز عن إيجاد جسر يربط بين عالميه المتناقضين: “أعتقد أنه كان مشوشاً في ذهنه وحائراً- الدين من جهة والعلم من جهة أخرى”.
وأضاف تشليك “أعتقد أن عالمه الداخلي كان معتماً للغاية. كنت أشعر بذلك حتى قبل انضمامه للدولة الإسلامية”.
قام بتجميع المادة القصصية كل من أوزوي بولوت وقاسم سيمندر وريكار حسين من قسم رصد التطرف في (صوت أميركا) بواشنطن، ويلديز يازجي أوغلو من أنقرة، تركيا. كتب التقرير كارول غينزبيرغ. جميع الصور أخذت من حسابات رشيد توغرال على فيسبوك وتويتر، إلا إذا تمت الإشارة إلى مصدر آخر.