الرئيسيةمقالات

هل تغيّر الغربة شكل الإنسان؟ رحلة بين الهوية والذاكرة واللغة

الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية

لا أحد يغادر وطنه كما هو. فالغربة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر؛ إنها انتقال من نسخة إلى نسخة جديدة من الذات.

كأن الإنسان حين يعبر الحدود، يعبر معها شيئًا خفيًا في داخله، شيئًا يتحول بصمت: لغته، ذاكرته، ملامحه العاطفية، وحتى طريقته في التفكير.

حين تبدأ اللغة بالتحول… يبدأ معها شكل الروح

اللغة ليست كلمات فقط، بل طريقة في الإحساس.

ولذلك، حين تتسلل لغة جديدة إلى حياتك، تغيّر شيئًا في نبرتك، في كلماتك، في الطريقة التي تصف بها حزنك وفرحك.

تجد نفسك تتحدث بلغتين لكن تشعر بلغة واحدة.

هذا الازدواج اللغوي ليس ضعفًا، بل هو دليل على أن الهوية أصبحت ساحة تلتقي فيها عوالم مختلفة، دون أن تلغي بعضها.

الذاكرة… ما الذي يبقى وما الذي يتلاشى؟

الغربة تعيد ترتيب الذاكرة.

تُقرّب أشياء كانت هامشية، وتُبعد أشياء كانت أساسية.

فجأة، يصبح صوت المؤذن ذكرى عميقة، ورائحة الخبز في فرن الحي القديم صورة ثابتة في القلب.

بينما تتلاشى تفاصيل أخرى كأنها لم تكن.

الذاكرة في الغربة لا تعمل كالأرشيف، بل كقلبٍ ينتقي ما يستحق البقاء.

الإنسان بين هويتين… أم بين هوية واحدة تتوسع؟

يعيش المغترب دائمًا بين سؤالين متناقضين:

هل أنا كما كنت؟ أم كما أصبحت؟

قد يشعر أحيانًا أنه معلّق بين عالمين:

• عالم يشده إليه بالحنين

• وعالم يدفعه إلى الأمام بالفرص

غير أن الحقيقة أن الهوية لا تنقسم، بل تتسع.

تصير الهوية مثل نهر يدخل فيه ماء جديد، دون أن يفقد ماؤه القديم.

هل تغيّر الغربة شكل الوجه أيضًا؟

نعم… لكن بطريقة لا نراها إلا حين نعود.

الغربة تضيف للوجه تعبيرًا آخر: صمتًا أطول، حذرًا أكبر، نظرة تبحث عن شيء لا يُعرَف اسمه.

حتى الابتسامة تتغير: تختلط بالخبرة وبالقدرة على التحمّل.

يقول أحد الذين عادوا من الغربة بعد سنوات:

حين رأيت وجهي في مرآة بيتنا القديم، أدركت أن الغربة لم تسرقنيبل أعادت تشكيل ملامحي بأدوات لم أرَها.”

الغربة ليست وطنًا بديلًا… بل وطنًا مؤقتًا

مهما طالت سنوات الاغتراب، يبقى للإنسان وطنان:

واحد يتذكره، وآخر يعيش فيه.

لكن الغربة لا تصنع انتماءً جديدًا بسهولة؛ إنها تمنحك قدرة مختلفة على رؤية نفسك، وعلى رؤية وطنك الأول.

فمن يعود لا يعود كما رحل، ومن يبقى لا يبقى كما كان.

حين تجتمع اللغة والذاكرة… تتكوّن هوية هجينة جميلة

ليست الهجنة ضعفًا، بل ثراء.

فالإنسان الذي يعيش بين ثقافتين يمتلك قدرة أكبر على فهم التعدد، على قبول الآخر، وعلى رؤية العالم من نافذتين بدل نافذة واحدة.

إنه إنسان يتسع… لا يتشتت.

في النهاية… هل تغيّر الغربة شكل الإنسان؟

نعم، الغربة تغيّر، لكن التغيير لا يعني الفقدان.

تغيّرنا الغربة لأنها تدفعنا إلى أن نكتشف ما لم نكن لنكتشفه لو بقينا حيث كنا.

تغيّر صوتنا الداخلي، تتغير علاقتنا بلغتنا، تتغير ذاكرتنا، وتتغير طرائق رؤيتنا للعالم.

لكن وسط كل هذا التحول يبقى شيء واحد ثابتًا:

نحن نحمل الوطن معنا… حتى لو بدا أننا نبتعد عنه

إغلاق