مقالات

جامع الأغصان : رياض. الصالح

كانت ليلة ظلماء باردة .. أشعل موقده بصعوبة .. و جلس لينسل من رزمة الحطب التي بجانبه تلك الأغصان الصغيرة اليابسة .. ليضعها في لهيب النار .. ركز بعينيه اللامعتين .. في تلك الشعلة الراقصة مع كل نسمةٍ تبعثها السماء .. يحاول أن يربط بين نوع كل رقصةٍ لذلك اللهب .. مع قصةِ كل غصنٍ يغلِبُ على ظنّه أنَّهُ مصدرُ تلك الرقصةِ و منشأها .. أحرق ليلتها الكثير من الأغصان .. يتنعّم بالتأمّلِ الدافيء ..
أثار دماغه فكرة .. بدأت مع أول شرارة منحها لتلك الحفنة من القش اليابس .. ليملأ تلك النار .. وهجَ الحياة .. لقد صمتت الحركةُ لحظتها .. و آلت الرياح مع صريرها نحو السكون .. و تشنَّجَت الأشجار و حَفيفُها .. كل ما حوله توقَّفَ عن الصراخ .. إلا ذلك الدماغ الذي بدأت محَرّكاتُهُ بالضجيج ..
لم يقطع تلك السمفونية الهادئة .. إلا تَطَفُّلُ ذلك الضيفِ .. رجلٌ يستأذنُهُ للجلوس .. يظهرُ على ملامحه تعبُ السفر .. فرَمَقَهُ العجوزُ بنظرَةٍ .. تشبهُ جَفلَةَ الغزالةِ الظامئة حين يقطع شُربَها حَرَكَةُ مباغِتَةٌ .. أو صوتٌ ما ..
كان منبعُ الغرابة صادرٌ من كمية ذلك الاحترام الساكن الذي أولَتهُ له الطبيعة حين لاحظت رغبته بالسكون .. مقارنةً .. بكمية الإزعاج المفرطِ المستَفِزّ .. و الذي لا يحسن بذلَهُ بِلامبالاةٍ .. إلا البشر ..
فماذا سيكون بعد الدعوَةِ للجلوس .. إلا المجاملات البديعية .. و تبادل ضجيج المدائح .. و أكاذيب التعارف .. و الضحكات المصطنعة .. و تشتيتِ حفلةِ العزلة التي كان يُعِدُّ لها طويلاً ..
كَشَفَ الضيفُ للعجوز عن معرفته المسبقة فيه .. بقولِهِ .. أعلَمُ أنّكَ المعروفُ بجامعِ الأغصان .. و أنا السالكُ لطريقتك .. الحريص على معرفتك .. التائه في أفعالك .. المستفهمُ عن أحوالك .. المستدركُ لكلّ ما فات غيري من اغتنامِ روعاتِك .. المرتجي منك عباءةَ الإلهام .. و المستهدي موهبَتَك .. و المغترفُ من بحارِ علمِك ..
فتربَّعَ الصمتُ على أريكة الحديث .. مرةً أخرى .. و عادت للعجوزِ مشاعرُ اللحظة التي ظنَّ أنها تبددت .. أخذ ينظر إلى الفتى يحاول أن يدرك مرادَه الحقيقي .. حتى تعبت عيناه من حديث النظرات .. و قراءة المضامين .. و غرقت كثير من أفكاره في دوامات الظنون ..
فعدَّلَ جِلسَتَه .. مُؤذِناً بعاصفةٍ من الكلمات .. قال له .. و لماذا تريد معلِّماً ؟ .. و أنتَ بذاتِكَ الطامِحَةِ المعلِّم .. و أيُّ علمٍ تريد .. و أنت بذاتك المجهولَةِ علمٌ فريد .. اسمع يا بني .. من لا شيخَ له .. مَلِكٌ .. متربعٌ في مملكةِ ذاتِه .. إذا كانت ذاتُهُ تحمِلُ هَمَّ الفهمِ .. و حبَّ المعرِفَة .. و جراءَةَ المغامرة.. سيكفيه فخراً أنَّ شيخَهُ سيكونُ .. آلامَ العَثَرات .. و حيرةَ الضلالةِ في الوِجهات .. و مكابدة البحث .. عند الضياعِ في المتاهات .. و كلها و إن كانت في ظاهرها تيهاً و شقاءً .. إلا أنها أعظم الهبات .. و مصدر البركات .. و مرجع العلوم .. و سر العَظَمه ..
يا بني .. هل تدري لماذا أجمعُ الغصونَ اليابسة ..بتأَنٍّ و حرص .. إنها تعبيرٌ لديَّ عن ذكريات تجاربي .. التي تبدو ميتةً من روحِ الفهمِ وقت حصولها .. فألتقط غصناً يابساً .. أجعَلُهُ قلماً أُدَوِّنُ به.. كل ذكرى على حِدَة .. و عصاً أشق بها بحار المعرفة .. حتى إذا كحَّلَ الظلامُ طريقي .. أوقدتُ بشرارةِ تركيزي .. و شعلة تفكيري .. لهيبَ ناري .. لتتلوَّى أمامي بعد أن تدبَّ بها الروحُ التائهة .. كما الأفاعي .. فأقرأ بين سُطورِها .. و على مَنَصَّةِ رقصتها .. ما فاتني من معرفةٍ .. و ألتقطُ دفء المعاني .. و حرارة الفهم .. و خلاصة ذكريات كل غصن كنت أراهُ يابساً بعينِ جَهلي و سذاجتي وقتها .. لأشعرَ فيه بالحياة .. التي لن تراها إلا عين الحكمة التي اشتعلت نوراً و نارا ..
قال الفتى .. فهمت .. فقل لي إذن .. كيف تحيي الموتى ؟ .. نعم .. لا تستغرب .. رأيتك بأم عيني .. و أنت تنفخُ روحَ السعادة في جسد الحَزانى .. و تبعثُ باليقظةِ في أرواح الغافلين .. و تُفَجِّرَ الغضبَ في نفوس المستسلمين .. و الأمل في برود اليائسين .. تمنيت أن أتعلمَ منك ما لا يُحسِنُ فِعلَهُ الكثيرونَ من هواةِ الهُراءِ الزائف ..
قال .. يا فتى .. ليس في ذلك فضلٌ و لا إحسان .. و لا طلبٌ لمدحٍ و امتنان .. و لا خوفٌ من الجحود و النكران .. فأفعالنا .. أقوالنا .. تجاربنا .. خلاصاتنا .. إرشاداتنا .. نابعة من ظروفنا الخاصة .. تفاعلنا معها بعقليتنا الخاصة .. لذلك .. فصفةُ حقائقنا دائماً نسبِيَّة .. و كذلك فلسفاتُنا أملاكٌ شخصيَّة .. فدروبنا التي نسلكها .. تعطي لكل فردٍ في هذا الكون حقاً و خصوصية .. فهي ملائمةٌ للبعض .. فاشلَةٌ للبعض الآخر .. فلا يغُرَّنّك ذكاؤك .. و لا يسرِفَنَّ عطاؤك .. و دع للغير مجالاً ليخوضوا كما خضت .. و يجدوا ما فات عنك .. و يصلوا إلى ما وصلت إليه أم لم تصل .. بدموعهم و عرقهم ..
دع عنك يا بني التقليد .. و لا تبحث إلا عن الجديد .. و تحلى بالثقة .. و تخلى عن الخوف .. و عظِّم في نفسك العشقَ و الخير .. و حبَّ الكونِ و الغَير .. و لا تنشغل إلا بخاصةِ نفسك .. لتمتلك شرارة تحيي بها نيرانَك التي لا تَحرِقُ أذىً .. فيستنيرُ بشعلتكَ الخائفون .. و يستدفئون .. و يبيتونَ حولَ نارِكَ ليلَتَهُم .. و يكملونَ بعد لقائِكَ رحلتهم .. و هذا هو الصبحُ موعدك معي .. و إن الصبحَ قريب .. فجهِّز نفسَك للرحيل ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق