الرئيسية
ملاحظات على هامش افتتاح المتحف المصري الكبير د. عبد الرازق متاني- أستاذ الاثار والعمارة
شاعر الأمة محمد ثابت

2-11-2025
ملاحظات على هامش افتتاح المتحف المصري الكبير
د. عبد الرازق متاني- أستاذ الاثار والعمارة
أفتتح حديثي بمشاطرة اهلي في مصر الحبيبة فرحتهم الغامرة بافتتاح المتحف المصري العظيم، ذلك الصرح الثقافي الفريد الذي طالما انتظرته مصر والعالم، بل وأثلج صدري أن يتحقق مشروع بهذه الضخامة والرؤية في أرض يتجذر فيها التاريخ وتنطق كل حبة رمل على ضفاف النيل بعبق الحضارة العتيقة الراسخة في عمق الارض. لا جدال أن مصر كانت وما زالت منارة الحضارات وأهم روافد التراث العالمي، ان لم تكن اهمها.
وأنا أتابع مشاهد الاحتفال البهيج بحضور قادة العالم وتفاعل الجماهير، تهادى إلى ذهني التأمل في جوهر التراث وحساسية مسألة الآثار ودورها المحوري في نسج هوية الشعوب. ولأنني فلسطيني، يصعب عليّ ـ وأنا أقف أمام هذا المشهد ـ ألا أستحضر كيف جرى وما زال يتم توظيف علم الآثار في فلسطين، خاصة من قبل إسرائيل والحركة الصهيونية، لترسيخ الأيديولوجيا وتوجيه وعي الجماهير نحو سرديات مصطنعة تصنع المصير والسياسة.
في ذات اللحظة، اصطدمت صور بهجة الافتتاح بذكريات أليمة عن هدم وتهميش الآثار الإسلامية في أرض الكنانة، ووقفت أتساءل: هل من يهدم المساجد والمدارس والزوايا والقلاع التاريخية الإسلامية العتيقة النفيسة في القاهرة حقًا معنيٌّ بصون التراث كما يدّعي؟ أم أن الأمر، في جوهره، تحريك لمشاريع وأجندات سياسية، تُبرز ما يخدمها وتطوي ما لا يخدمها في أرشيف النسيان؟
من يتأمل مشهد العمل الأثري في الوطن العربي والإسلامي، سيدرك حجم السيطرة والتوجيه الذي تمارسه صناديق التمويل الغربية واليد الخفية خلف معظم مشاريع التنقيب، وسيكتشف حجم الأموال التي تستهدف إعادة تشكيل هوية المكان وسرديته وتقطيع نسيجه لصالح رؤى سياسية ولغوية وتاريخية مستحدثة؛ وهو أمر يتجاوز مجرد سرقة القطع الأثرية إلى صلب صناعة الوعي والتاريخ.
صرنا في العقود الأخيرة نرى التركيز على إحياء وتلميع هويات محلية متفرقة، تنزع عن الأمة وحدتها، وتعيد رسم الترسيمات القديمة باتجاه انقسامات سايكس-بيكو، بل وتسعى الى تقسيم المقسم، على حساب سردية جامعة متماسكة وأمجاد حضارة متصلة الحلقات، بينما يُغيَّب عن عمد المكوّن الإسلامي والعربي الجمعي.
لو صحّ الادعاء بحسن النوايا نحو صناعة الهوية وصون التراث، لكان الأولى إبراز الرابط الحضاري الجامع واحترام التعدد تحت مظلة الأمة، لا اختزال المشهد إلى سياسات تقسيم وتفتيت. ويبقى أملنا أن يكون كل إنجاز اثاري حقيقي سلّمًا نحو وحدة الذاكرة التاريخية وبناء مستقبل متصالح مع أصالة الماضي وروح الأمة، لا أداة من أدوات تفكيكها وتشويه صورتها.
وفي هذا السياق، نعيد التأكيد على دعوتنا الملحة إلى ضرورة الاستقلال الفكري وأهمية استعادة المبادرة في مقاربة هويتنا وتراثنا بعيدًا عن التأثيرات الخارجية والتمويلات المشبوهة. إن خدمة الهوية والمحافظة على التراث العربي-الإسلامي لا يتحققان إلا عبر عمل علمي منهجي يقوم على النقد الموضوعي والبحث الجاد، ويضع المصلحة الجمعية للأمة فوق كل اعتبار. فتراثنا العظيم ليس مجرد ماضٍ يُحتفى به في المناسبات، بل هو أساس حاضرنا ومفتاح مستقبلنا وركيزة ذاكرتنا الثقافية والحضارية.
ولا يجوز بحال أن نسمح أن يتحول هذا التراث إلى أداة بيد من يسعى للهيمنة على عقولنا وتشكيل وعينا بما يخدم مشاريعه وأجنداته؛ بل ينبغي أن نعمل بكل ما أوتينا من وعي وخبرة على صيانة هذا التراث، وتفعيل فعاليته الإيجابية في بناء هويتنا الجامعة، وترسيخ كرامتنا واستقلال خطابنا الحضاري. إن التراخي في هذا المجال لا يهدد فقط حاضرنا، بل يمهد الطريق أمام القوى الطامعة لاستباحة أرضنا وتاريـخنا وتذويب ذاتيتنا في مشاريع استعمار لا يقف عند حدّ.

