الرئيسيةمقالات

لَو كُنتُ هُدْهُدَ – أ د عبد الله السُّلّمي

قراءة نقدية الدكتورة فاطمة ابوواصل اغبارية

لَو كُنتُ هُدْهُدَ طِرْتُ يا بَلْقِيسَتي
لأََراكِ ،أَخْطَفُ ثُمّ لَا يَكُ مُوجِعِي

أو كُنتُ عِفْرِيتَ الزّمانِ فَإنَّني
آتي بعَرْشِكِ صِرْتِ أنتِ بمَوْضِعِي

وَوقَعْتِ عِندي مِثْلَ نَفْسي طَائِعًا
وسَجَنْتُكِ عِندي فكُنتِ طَيِّعِي

ودَخلْتِ صَرْحِي وَهوَ مَرْمَرُ زاهِرُ
قلْبِي فُؤَادي تكْشِفِي بالأَذْرُعِ

والقلْبُ صَافٍ كالزُّجَاجِ سَجَنْجَلٍ
ويَنِمُّ عَمّا فِيه ذا بالأدْمُعِ

أجِدَارُ قَلبِكِ بالحَديدِ ؟ فلَا يُرَى
مَا فيهِ ،ماذَا قَد يَخُطُّ يَرَاعِي ؟

(أ د عبد الله السُّلّمي)

البنية الموضوعية

القصيدة تنهض على فكرة واحدة هي الاشتهاء الروحي-العقلي للأنثى المتجلية في “بلقيس”، لكنها لا تُقدَّم في شكل غزل مباشر، بل عبر رحلة رمزية للذات العاشقة:

  • تبدأ بالتحول إلى هدهدٍ، رمز الرسول والعارف والحكيم في القصة القرآنية، بحثًا عن رؤية المحبوبة:
    “لو كنتُ هدهدَ طِرتُ يا بلقيسَتي / لأراكِ…”
    هنا تتماهى الذات مع كائن المعرفة والرؤية، فالرغبة ليست جسدية، بل رغبة في الكشف والرؤية.
  • ثم ينتقل إلى صورة أخرى: عِفريت الزمان، رمز القوة الخارقة والقدرة على الفعل:
    “أو كنتُ عِفريتَ الزمانِ فإنني / آتي بعرشكِ صرتِ أنتِ بموضعي”
    في هذا التحول من الهدهد (المبشّر) إلى العفريت (الفاعل)، يعبّر الشاعر عن انتقال العشق من مرحلة التمني إلى مرحلة التملك الرمزي.
  • بعد ذلك تتجسد فكرة الاندماج الروحي:
    “ووقعتِ عندي مثل نفسي طائعًا / وسجنتُكِ عندي فكنتِ طيّعي”
    إنه تملّك من نوع آخر، تملّك العاطفة والعقل في آن، لكنه لا يخلو من جدلية القوة والخضوع.

🔹 ثانيًا: البنية الرمزية والدلالية

كل بيت تقريبًا يبني معادلاً رمزيًا لمرحلة من العلاقة بين الشاعر وبلقيس-الرمز

الدلالة العاطفية

توق الرؤية

التمكن، السيطرة العاطفية

معراج العشق

الصدق والنقاء

انعكاس النفس في الآخر

العجز عن قراءة الآخ

الرمز الدلالي

الحكمة، الرسالة، البصيرة

القوة الخارقة، الإرادة

الكيان الأنثوي والرمز الجمالي

القلب الشفاف، الانكشاف الداخلي

صفاء المشاعر

الإغلاق العاطفي، الغموض

الصورة

الهدهد

العفريت

العرش

الصرح المرمري

الزجاج السجنجل

جدار القلب الحديدي

بهذه الطبقات الرمزية يتحول النص من غزل مباشر إلى قصيدة تأمل في ماهية التواصل الإنساني بين القلبين، بين من يريد أن يرى ومن يخشى الانكشاف.

ثالثًا: اللغة والموسيقى

  • الوزن العروضي واضح الانسجام، من بحر الكامل  (مع بعض الترخيمات)، وتدفق الإيقاع يخدم الدلالات النفسية المتصاعدة من الشوق إلى الانكشاف.
  • القافية المتحركة (بالياء المكسورة أو العائدة إلى “ـعي”) تمنح النص نغمة شجنية فيها أنين خفي ورقّة وجدانية.
  • الجمل متماسكة، واللغة جزلة ذات رنين عربي فصيح، تتكئ على المفردة التراثية (“الصرح”، “المرمر”، “السجنجل”) في تناغم مع الخط القرآني-الأسطوري.

 رابعًا: البعد القرآني والتناصّ

القصيدة تمتح بوضوح من سورة النمل، لكنّ الشاعر لا يكرر القصة بل يعيد إنتاجها فنّيًا:

  • الهدهد = الشاعر الباحث عن الحقيقة.
  • بلقيس = الأنثى/الروح/المعرفة الغائبة.
  • الصرح = الذات الشفافة أو القلب.
  • العرش = مقام العشق أو الكمال.

وهذا التناصّ يخلق حوارًا بين المقدس والإنساني، بين الوحي والحب، بين سلطان سليمان وعاطفة الإنسان.

 خامسًا: الرؤية الجمالية

يقدّم الشاعر عشقًا معرفيًا يتجاوز اللحم والدم، ليصير عشقًا كاشفًا، فيه الأنوثة رمز للحكمة والجمال الكوني.

لكن المفارقة الأخيرة تُعيدنا إلى حدود الإدراك:

“أجدار قلبك بالحديد؟ فلا يُرى / ما فيه…”

هنا تنغلق الدائرة، ويعود العاشق إلى الغموض، إلى سرّ الأنثى الذي لا يُفكّ.

التقييم العام

  • الأسلوب: رصين، عربي أصيل، مشبع بالثقافة القرآنية والتاريخية.
  • الخيال: مبتكر في الربط بين الرموز الدينية والعاطفية.
  • اللغة: متينة، لكنها تحتاج أحيانًا إلى تخفيف التراكيب الكلاسيكية لإتاحة مساحة أكبر للتجربة الحديثة.
  • الفكرة: موفقة جدًا في تجسيد جدلية المعرفة والعشق.

الخلاصة النقدية

قصيدة “لو كنت هدهدًا” نموذج راقٍ للتفاعل بين التراث القرآني والوجدان الشعري المعاصر، توظف الرموز الدينية في سياق إنساني راقٍ، وتكشف عن شاعرٍ يجيد الجمع بين التصوير البلاغي والرمزية العاطفية، في لغةٍ تحمل جلال التراث وحرارة التجربة

التناصّ القرآني الجمالي بين المقدّس والعاطفي

قراءة في قصيدة «لو كنتُ هدهدًا» للدكتور عبد الله السُّلّمي

المقدمة

تشكّل قصيدة «لو كنتُ هدهدًا» نموذجًا متفرّدًا في توظيف النصّ القرآني توظيفًا جماليًا يتجاوز التضمين التقليدي إلى تحويل الرمز المقدّس إلى بنية شعرية حيّة تعبّر عن تجربة إنسانية عميقة. فالقصيدة تستلهم قصة سليمان وبلقيس الواردة في سورة النمل، لكنّها لا تنقل الحدث القرآني نقلًا مباشرًا، بل تبني عليه رحلة وجودية في العشق والمعرفة والانكشاف.

1. المقدّس بوصفه فضاءً إنسانيًا

ينطلق الشاعر من النصّ القرآني لا ليعيد روايته، بل ليحاوره. فالهدهد، في القصة، رسول الحكمة الذي يبشّر بملك عظيم، بينما يتحوّل في القصيدة إلى رمز للذات الباحثة عن الرؤية والمعرفة. يقول الشاعر:
«لو كنتُ هدهدَ طرتُ يا بلقيسَتي
لأراكِ، أخطفُ ثم لا يك موجعي»

يتخذ الهدهد هنا بعدًا إنسانيًا، إذ يصبح لسان حال العاشق الذي يسعى نحو النور — نحو بلقيس، رمز الجمال والحكمة — لكنه يظلّ مهدّدًا بالألم، تمامًا كما يظلّ الباحث عن الحقيقة مهدّدًا بالخذلان.

2. التحوّل الرمزي والمعنى الجديد

في المرحلة التالية، يظهر العفريت الذي كان في النصّ القرآني مظهرًا للقوة الخارقة في خدمة الملك سليمان، ليصبح في القصيدة رمزًا لقدرة العاشق على تخطّي حدود الممكن:
«أو كنتُ عفريتَ الزمان فإنني
آتي بعرشكِ صرتِ أنتِ بموضعي»

بهذا التحويل، ينقل الشاعر الحدث من فضاء المعجزة إلى فضاء المجاز، فيجعل الإتيان بالعرش رمزًا للاتحاد الروحي والوجداني بين العاشق والمعشوقة. هنا يذوب الفعل الخارجي في فعلٍ داخليٍّ هو التوحّد.

3. الصرح والقلب: من المشهد المادي إلى المشهد النفسي

يبلغ التناصّ ذروته في صورة الصرح الممرد من قوارير. ففي القصة القرآنية، كان الصرح امتحانًا لبصيرة بلقيس، أما في القصيدة فقد تحوّل إلى قلب الشاعر الشفّاف:
«ودخلتِ صرحي وهو مرمرٌ زاهرٌ
قلبي فؤادي تكشفي بالأذرعِ
والقلب صافٍ كالزجاجِ سجنجَلٍ
وينمّ عمّا فيه ذا بالأدمعِ»

يُعيد الشاعر بناء الصورة على نحو يجعل من الصرح فضاءً داخليًا، ومن الكشف الجسدي كشفًا عاطفيًا ونفسيًا. إنّها قراءة وجدانية للنصّ القرآني تستبدل الامتحان المادي بامتحانٍ روحيٍّ في الصدق والصفاء.

4. من بلقيس التاريخ إلى بلقيس الرمز

بلقيس في القصيدة ليست ملكة سبأ فحسب، بل هي رمز الأنوثة الكونية والمعرفة الغامضة. تمثّل الحضور الذي يُرى ولا يُدرك، فيقول الشاعر:
«أجدار قلبك بالحديد؟ فلا يُرى
ما فيه، ماذا قد يخطّ يراعي؟»

إنها لحظة العجز أمام سرّ الأنثى، لحظة اعترافٍ بأن الكشف الكامل مستحيل، وأن الغموض جزء من الجمال الإلهي. وهنا يلتقي النصّ العاطفي بالمقدّس في رؤيا واحدة: أن الإنسان لا يدرك كنه الجمال إلا بقدر ما يُؤذن له أن يرى.

5. الجمالية الأخلاقية في التناصّ

يحافظ الدكتور السُّلّمي على قداسة النصّ القرآني، إذ يتعامل معه بوصفه مصدر إلهام روحي لا مجال فيه للعب اللفظي أو التصرّف غير اللائق. فهو لا يستعير الآيات نصًّا، بل يستثمر دلالاتها ورموزها، مما يمنح القصيدة بعدًا معرفيًا وأخلاقيًا في آنٍ واحد. وبذلك يُقدّم نموذجًا راقيًا لما يمكن أن نسميه “التناصّ الأخلاقي الجمالي”، أي ذلك التناصّ الذي يحترم النصّ المقدّس ويحاوره دون أن يستغله.

6. التوازن بين الروح والعاطفة

تكمن فرادة القصيدة في توازنها بين الهيبة الروحية للنصّ القرآني والحرارة الوجدانية للتجربة الشعرية. فالشاعر يكتب عن العشق لا بوصفه رغبة جسدية، بل بحثًا عن الكمال والنور. وهو ما يجعل القصيدة تعبّر عن لحظةٍ إنسانيةٍ ساميةٍ، حيث يتحوّل الحبّ إلى معرفة، والمعرفة إلى عبادة جمالية.

الخلاصة

إنّ قصيدة «لو كنتُ هدهدًا» تقدّم مثالًا متقنًا على قدرة الشعر العربي الحديث على التفاعل مع النصّ القرآني في مستوى رمزي وجمالي رفيع. فالتناصّ فيها ليس تكرارًا للمقدّس، بل تأويلاً له في ضوء التجربة الإنسانية. والشاعر ينجح في جعل المقدّس والعاطفي جناحين لتحليقٍ واحدٍ نحو الحقيقة: أنّ الحبّ في جوهره بحثٌ عن الله، وأنّ الجمال وجهٌ آخر للوحي.

 

إغلاق