الرئيسيةمقالات

ذاكرۃُ النكسۃ – حرب1967م النصرُ قرارٌ والهزيمةُ اختيار: (الجزء الأول) بقلم :عزت أبو الرب

كغيرنا من البيوتِ الفلسطينيةِ المزارعةِ، كانت النساءُ مساءً تُعِدُّ غداءَ اليومِ التالي، حتى نستفيدَ من الصباحِ بطولهِ للفلاحة، فطبختْ أمي في ذلك المساءِ أكلةً شعبيةً، تتكونُ من اللبنِ والعدسِ والعجينِ المفروم،ِ ونسميها “طُطْماجة أو رِقاقة بلبن”.
كان الكلُ الفلسطينيُ آنذاك يعملُ، ولكلِ فردٍ في الأسرةِ عملٌ يناسبُ سنَّه، وكنتُ حينها ابنَ عشْرِ سنواتٍ، تُسندُ إليَّ أنا الآخر مهامٌ وظيفيةٌ، جعلتني مُطِلاً علی تفاصيلِ الحياۃِ اليوميۃ،ِ لذا لا تستغربون ما أختزنُه في ذاكرتي من أشياءَ كثيرۃ،ٍ فقد رأيتُ الجيلَ الذي عاصرَ سقوطِ الخلافةِ العثمانيةِ، وشاركَ في مواجهةِ الانتدابِ البريطاني والعصاباتِ الصهيونية،ِ وذاقَ ويلاتِ النكبةِ وأوجاعَها.
عشتُ النكسةَ بإعلامِها الكاذبِ المهزوم،ِ وكلُ جيلي يعرفون أحمدَ سعيد. كانت الأجواءُ العامۃُ قبلَ تلك الحربِ تموجُ وتروجُ بين الناس بأخبارٍ فظيعةٍمفزعۃٍ مخزونةٍ في ذاكرتِهم عن اليهودِ وأفعالِهم أبَّانَ النكبۃ،ِ ويضافُ إليها ما كان يتناقلُه الناس قُبَيْلَ حربِ عام 1967م عن تَسلُلِ اليهودِ إلی القرى الأماميةِ المجاورةِ لفلسطينَ المحتلةِ عامَ 1948م، وكانت قريتُنا جَلْبون إحداها. وقد حصل ذاتَ ليلة،ٍ أنْ خرجتْ أمي من البيت،ِ فرأتْ ظلاً بجانبِ السورِ المقابلِ لبيتننا ذي القنطرتيْن، فسألتْ مَنْ الحرس الليلة؟ وكانت نقطةُ الحرسِ الشعبيِّ الليليّ تبعدُ عشراتِ الأمتارِ عن بيتِنا، وتستحكِمُ بالخندقِ الذي يحيطُ بالبلدِ، ويمرُّ من أمامِ بيتِنا، فقالَ: أنا فايز عارف مصطفى، فقالت: مَنْ معك؟ فقال: لا أحد، فقالت: ومَنْ هذا الذي عند السور؟ ففرَّ باتجاهِ المنطار، مكان بيتي الحالي، فذهبتْ إلى مقرِّ الحرسِ وأتت۟ بالنجدةِ له، وعندما لاحَ الصباحُ انسحبتْ المجموعةُ اليهوديةُ مروراً بالمُصرارة،ِ نحوَ خلةِ اسليم، لتعبرَ الأرضَ المحتلةَ عام1948م.
كلُّ هذهِ الأحاديثِ والأخبارِ جعلتْنا مرعوبين مهزومين سلفاً، وجاهزين للفرار، لذا كانت أمي تنقلُنا في كثيرٍ من الليالي من بيتِنا في طرفِ البلدِ، إلى بيتِنا الآخر وسط البلد.
. وأذكرُ في مثلِ هذا اليوم،ِ صبيحۃَ الخامسِ من حزيران،َ غَدَوْنا مبكرين إلى حقلِ الشعيرِ في حاكورتِنا، وفي غَمْرَةِ حَصادِنا، مرّ بجوارِنا محمد ابنُ جارِنا حسن حلاوۃ، وكان في التوجيهي، فأخبرَنا بنشوبِ الحرب.
وضعتْ أمي ما بيدِها، واتجهتْ نحو البيت،ِ وعلى عَجَلٍ، غسَّلنا وغيّرنا ملابسَنا، وحملنا بعضاً منها ملابسِنا وتركنا بيتَنا وطبختَناوغِلالَنا و حصانَنا وحمارَنا ومواشينا وانطلقتْ بثمانيةِ أولادٍ كحَجَلَةٍ خلفَها أربعةُ فراخٍ منَ الذكورِ وأربعٌ من الإناث أكبرُنا فتاةٌ في الثامنةِٰ عشرَ وأصغرُنا أخرى في الثانية.وأكبر إخوتي تيسير في الرابعة عشرة.
سرنا مشياً باتجاهِ الغربِ بين الموارس عَبْرَ طريقِ أمِّ الفولِ.و لما وصلنا دارَ المختارِ رأينا أحدَ الحرسِ الشعبي يحملُ بارودةً وينظرُ من خلفِ الدارِ إلى نقطةِ العدوِ الإسرائيلي في العجمي شرقا.ً وعلی بُعْدِ أمتارٍ التقينا بعضَ الأسرِ التي في طريقها للهرب وأمامحمود نجيب وأسرته فكان في أرض له. كان الناس منتشرين علی الطرقاتِ وفي الجبالِ، وفي طريقنا غربا رأينا في جبل دارِ ابي الشيخ ياسين الذي يعمّرُه يعقوبُ المحمود علی حصۃ ناساً من جلبون يجلسونَ أمامَ شِبْهِ مغارۃٍ في الجبلِ، تغطيها شجرةُ تينٍ، فصعدنا نحوهم، وأذ هم بعضُ جيرانِنا، العبد ابوطافش، ومحمود مصطفی، وابراهيم الجيتاوي وزوجاتهم. وكلما مرتْ طائرةٌ يقولُ الرجالُ : هذه عراقيةٌ وهذه إسرائيليةٌ، وكانوا ينبطحون على الأرضِ، ويأمروننا بذلك إذا ما أجمعوا على أنها طائرةٌ للعدوِ الإسرائيلي. بقينا في المكان حتى أفولِ النهارِ، وبعدها توجهنا غرباً نحوَ دير أبوضعيف، ونزلْنا في ضيافةِ يعقوب، زوج قريبة لنا تدعى حاجة المحمود، وكان قد سبقنا هناك أخوهاحسن وأولاده وآخرون نزلوا عند أقارب لهم. كان الرجالُ مجتمعين في دارِ راضي المحمود يتابعون القصفَ والأحداثَ وفي جَوْفِ الليلةِ الثانيةِ سمعْنا انفجاراً قوياً فقيلَ قصفَ اليهودُ المدفعيةَ الأردنيةَ المنصوبةَ في وادِ الرصيف التي كانت تطلقُ بعضَ الرشقاتِ على اليهودِ وتشاركُها في إطلاقِ النارِ نقطةٌ أخرى للجيشِ الأردني في جبلِ راسِ الطويلِ بأمِ الحمحم . وفي الصباحِ وعندَ ارتفاعِ الضحى أخذتْ القواتُ الصهيونيةُ المنتشرةُ في نورسَ والمزارِ والقادمةِ من جهةِ الجلمةِ وعرانةشمالاً تقصفُ في الهواءِ باتجاهِ دير أبوضعيف، وتتقدم، فهربتْ جموعٌ من الناسِ جنوباً سالكين وادِ العدسِ نحو قريةِ جلقموس، وانتشروا في الجبالِ والشعابِ، وحين غبْنا عن الأنظارِ بينَ الأشجارِ وهدأ القصف، ُ جلسنا نستريحُ في ظلِّ زيتونةٍ، وفَجْأةً عاد القصفُ بقوةٍ وكثافةٍ، فنهضنا فزعينَ مذعورينَ نركضُ وقد نسينا أختَنا الصغيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق