مقالات

‘خنجر سليمان’ أداة للكرامة والعزة والشرف/ صبحي فحماوي

صبحي فحماوي يعالج في روايته سيرة نادرة لبطل عربي أغفلت كتبُ التاريخ ذاتها سيرته.

دقة متناهية

قبل أن نبدأ قراءة رواية “خنجر سليمان” وقبل تحليل العمل، استغلها فرصة للترحيب بالمبدع الكبير الروائي صبحي فحماوي في الإسكندرية.. كما اعتبرها فرصة لإبداء الإعجاب بهذا العمل الذي بين أيدينا، والذي اعتبره إضافة إلى المكتبة العربية، والمكتبة الروائية خاصة، لكونه عن حق يمثل إضافة في كافة محاوره النادرة، وأكرر النادرة لأنه عمل يعالج سيرة نادرة لبطل عربي أغفلت كتبُ التاريخ ذاتها سيرته بهذه الدقة المتناهية التي لمسناها عند الأستاذ صبحي فحماوي وبهذه الموضوعية والفنية شديدة الخصوصية، وشديدة الوعي في الوقت ذاته.

ثانيا، عالجت فترة هي أشدُ ظلمة واختلاجية وضبابية وبهوتا ألا وهي فترة مطلع القرن التاسع عشر في مصر، وفي عالمنا العربي، في حلب ودمشق وحمص وطبريا والقدس والخليل وغزة والقاهرة، فكأنك بذلك، وعبر لغة التفاصيل والوصف الدقيق، وضعت يدك في شراك العنكبوت، وأنت تكتب وكأنك تحمل على أكتافك كاميرا سينمائية تصور لنا كل بلدة قطعها “سليمان الحلبي” من حلب إلى القاهرة بدقة متناهية.. إذ مثلت الأماكن عندك على وفرتها أيقونة هذا العمل المثير الدقيق الشائك والشائق في الوقت نفسه، كما أنك نجحت وأنت تكتب بلغة أديبة مشوقة ودسمة ومفعمة بدقة التفاصيل والوصف وفنون الحوار والجدل والمنطق أن تتعامل من خلال روايتك – كما أسميتها أنت – بمنطقية البحث العلمي، فنراك في المدخل –وإن لم تسمه مدخلاً – تجادل تناقش وتحاور مؤرخنا المصري الكبير عبدالرحمن الجبرتي صاحب “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” من زاويتي التوثيق والتدقيق وتنتقد في الجبرتي لغته التي أسميتها “اللغة المكسرة” الغاصة بالأخطاء اللغوية الفاضحة، وأقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، كما تنتقد فيه موقفه الصادم من سليمان الحلبي وتماهيه في ذلك مع المستعمر الفرنسي الذي وصفه الجبرتي بأنه – وإن كان مستعمرا إلا أنه يجلب الحضارة لمصر – كذلك وصفُه لسليمان الحلبي بالقاتل الذي “غدر” بالجنرال كليبر.. إذن فبكل بساطة نحن في رواية ذات منهجية أكاديمية علمية توثيقية في المدخل، تَردُّ فيها على أوثق المصادر آنذاك.. مصدر كتاب الجبرتي، ثم تنخلع سريعا من لغتك الأكاديمية المنهجية، لتبدأ في نسج لغة أدبية رقيقة مكثفة متراكبة، تحركها أكثر من زاوية.. منها الزاوية التاريخية للأحداث.

وأشكر لك، وأنت تحمل على أكتافك حِملاً ثقيلاً مُتداخلاً شائكا رفض الأكاديميون المتخصصون أن يخوضوا غماره.. لقد كنت دقيقا في سردك لسيرة سليمان الحلبي وإن اكتنف عملك ستار المجاز طيلة أحداثه، وهذا طبيعي، خاصة وأنت تخبرنا بأننا أمام رواية، وليست مجرد سيرة، وهذا الذي يدفعنا عن حق إلى التساؤل: لماذا أسميت هذا العمل رواية؟ فهل هو بحق رواية تدعمها كل أدوات الرواية وفنونها من زمان ومكان وشخصيات وعُقد وحوار و… و… أم أننا بحق أمام فن من فنون السيرة غُلِّف بغلاف الرواية؟؟ الذي أردته أنت لها؟ وهذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بداية: هل نحن أمام رواية؟ أم سيرة، خاصة في فترة يرفض فيها كثير من الروائيين أن يصفوا أعمالهم بأنها من فنون السيرة وكأن فنَ السيرة، وهو فنٌ قديم قدمَ الأدب العربي نفسه، ووثقه طه حسين عن غير رفضٍ وبأمانة كاملة، بأنه سيرة في كتابه “الأيام”، والعشرات من قبله وبعده في العالم العربي وفي أوروبا وغيرها، ولكنني أصادف في هذه الأيام العشرات من الروايات هي في الأصل سيرة، ولكن يأتي الروائي فيكتب عليها رواية قبل “سنوات الحرب والحظ” لهدى العجمي، و”الحفيدة الأولى” لفاطمة الصعيدي، و”حرب الشرق والغرب” لزين عبدالهادي… الخ.. كلها كتبٌ وأعمالٌ في صميم السيرة ولكن تماشيا مع الموضة السائدة… سميت رواية.

ولكن في هذا العمل بين أيدينا.. إنه بحقٍ رواية متكاملة الأركان والسبب هو تطرقها لأكثر من بنية..

أولها: بنية الراوي الخارجي الذي هو بلا خلاف صبحي فحماوي، فوجود الراوي الأمين والمكين والمحرك للأحداث من خارجها، وبهذه الدقة التراكمية للأحداث، لأنك قرأت سيرة سليمان الحلبي منذ مولدهِ ونشأته الأولى في حلب، مرورا بسنوات تعليمه الأولى، وحتى بلوغه مبلغ الشباب، ورغبة أبيه وأمه في دفعه لاستكمال دراسته في الأزهر الشريف في مصر.. إلى يوم مقتله شهيدا على أرض مصر، فكل هذا ودورك كراوٍ خارجي للأحداث يدفع بالعمل إلى مرسى الرواية.

ثانيا: وهذه ملاحظة دقيقة تدعم الرأي القائل بأن هذا العمل إنما هو رواية متكاملة الأركان، ألا وهو انتفاء وجود ضمير المتكلم.. تخيلوا مثلاً: (تاء الفاعل) أو(نا الفاعلية) أو (واو الجماعة) بصفة المتكلم (قلت / قلنا/) إلى آخر هذا الكلام، فدائما في “خنجر سليمان” الحديث عن البطل صاحب العمل سليمان الحلبي حتى عن بقية الأبطال من المشهد الخارجي اللاقط للأحداث من مقدمة العمل، أو الكلمات الافتتاحية حتى كل الفصول.. لاحظوا معي مثلاً “لوحة الخِتام” الذي استبقاها الراوي ليدفع بها إلى افتتاحية العمل ص7، كذلك انظروا معي إلى ص 15 الفصل الأول من الرواية، لتدركوا تماما بأن الراوي صبحي فحماوي، إنما أراد لعمله وهو “في صميم السيرة” أن يخرج في رواء الرواية وعبر طبيعتها الموضوعية والفنية.

ثالثا: اكتناز العمل بهذا الكم الوفير والزاخر بالمعلوماتية، والتي اعتبرها معلوماتية بحثية أكاديمية حقيقية، وأشكر لك بمناسبة هذه المعلوماتية، وأنا أراها نظرة استشرافية منك أنك وضعت غزة وهي التي تلقى ما تلقاها الآن من جبروت رأس المال الصهيوني المندلق بنيرانه المنضبة على فلسطين بلا رحمة، وحيث القتل المجاني، أنك وضعتها على رأس الفكر المعلوماتي عندك، حينما وقفت طويلاً أمامها، وأنت تنقل لنا أحداث سفر سليمان الحلبي وأبيه إلى مصر، والتي من خلالها مروا على بلدان الشام وصولاً إلى غزة ومنها إلى القاهرة، فوقفت أمام غزة وتاريخها وقفة أضاءت بالفعل تاريخ هذه المدينة المقهورة، وهو تاريخ من السحر، كذلك كشفت أن غزة كانت هدفا للغزاة، منذ الإسكندر الأكبر الذي قاومته فقرر أن يبدها عن ظهر الأرض، وأمر جيوشه التي دمرتها عن ظهر قلب ص 42..

كان يكفي المؤلف أن يجعل سليمان الحلبي هو عنوان العمل، ولكنه… جعل الآلة موازية لقيمة صاحبها

كذلك من الجانب المعلوماتي عن تاريخ الأزهر الشريف والقاهرة والإسكندرية، وقد وقفت مذهولاً بحق، وأنت تتكلم عن تاريخ مدينتي الحبيبة الإسكندرية وتقول لنا أن الرومان حرقوا مكتبة الإسكندرية ثلاث مرات، وليس مرة واحدة في صراعهم مع اليونانيين ومع كليوبترا في الزمن الإسكندري اليوناني الروماني للمدينة.

إذن، فالرواية مكتنزة بالجانب المعلوماتي، وهو رغم ثرائه إلا أنه – من وجهة النقد – ومع استثرائه بالعمل، ورغبة الإبداع في تكثيفه إلا أنني رأيته في بعض الأحيان عطّل مسيرة الأحداث، ويكفي أن الخمسين صفحة الأولى من الرواية وهي 150 صفحة ومع اكتناز الجانب المعلوماتي لم يكن سليمان الحلبي قد وصل إلى مصر ليدرس بها، وهذا ما جعلني أقول إنه مع أهمية الجانب المعلوماتي إلا أنه أسهم في تعطيل مجرى الأحداث على وتيرة من وتائر الشغف المنتظر، والسرعة المرتقبة.

نعود إلى الرواية ونقول إنه يُحسب لها – وهي رواية تاريخية – بلا شك، تصور الصراع الغربي، ممثّلاً في الاستعمار الفرنسي البشع على مصر، ومقاومة المصريين له، وإبراز شجاعة سليمان الحلبي في قتله كليبر ليحسب لك أنك في قلب هذا التاريخ، ولم تنسْ الجانب الوجداني والإنساني سواء في طبيعة المقاومة المصرية الشديدة لفرنسيين، والكشف عن تفاني المصريين في محبة بلادهم..

ونجد في الجانب الوجداني في مطلع الرواية في علاقة الشيخ محمد ونّس الأمين مع زوجته أم سليمان الأسدي التي أنجبت له طفلاً وحيدا، وهو سليمان الحلبي، مما اضطره إلى البحث عن زوجة جديدة شابة ولود جميلة من بلدة إدلب، ثم زواجه بها، وهي التي أنجبت له طفلين، ونشوب فكرة الصراع المبكر بين الزوجتين، ودور الشيخ “محمد” في هذا الصراع، وموقف سليمان الحلبي في التعصب لأمه.. كل هذا أججَّ فكرة الصراع المبكر في هذا العمل، إضافة وهذا الذي أعجبني كثيرا من الأستاذ صبحي فحماوي هو كشفه عن طبيعة سليمان الحلبي الإنشائية والوجدانية والعشقية.. فسليمان الحلبي الذي رأيناه مجتهدا بطلاً قتل القائد كليبر واستشهد في عملية قتل مريرة على أرض مصر، هذا السليمان الجميل كان له وجه عشقي مبكر ووجداني مؤثر ليس وهو في أوج شبابه بمصر، أبدا ولكن مع سنوات التكوين الأولى في حلب في بلاد الشام، وهذا يدل دلالة مباشرة من أن تكوينه الفطري، حتى ولو تعلَّم في المدارس الدينية، وكان هذا هو سمتُ العصر، إلا أنه في الأصل إنسان يُحبُّ ويعشق ويذوب حتى من سنوات الطفولة المبكرة، انظروا معي إلى ص 17 و18، وتابعوا بدقة فكرة التكوين للطفل سليمان الحلبي وكيف أنه كان يعشق ويحب وهو ابن 7 سنوات، مما يدل دلالة قاطعة على تكوينه الفطري البديهي منذ نشأته الأولى، وهذا ما أثرى العمل كثيرا وأخرجه من دائرتي التاريخ والمعلوماتية وتراكمية الأحداث.

وإذا تكلمنا عن هذا الجانب الوجداني المثير بلغته الفريدة التي أستطيع أن أقول عنها إنها لغة لونت صِبغة الرواية، وقطعت فكرة الكتابة باللغة التاريخية المكثفة والسريعة والناقلة للأحداث، وجعلتنا في لغة خنجر سليمان أمام لغة تتجدد في رباطها بالأحداث، فمن اللغة الأكاديمية الجدلية في المدخل في تفنيد صبحي فحماوي لكلام الجبرتي، ومع تقديم لوحة الختام ليوم إعدام سليمان الحلبي باللغة الوصفية، التصويرية، الشغوفة، إلى اللغة التاريخية، والتي جاءت مفصلةً وكاشفة للأحداث إلى اللغة الوجدانية للكشف عن أن سليمان الحلبي الذي وصفه الإعلام الغربي الفرنسي بالجنون مرة، وبالغدر مرات، وبالقاتل مرات أخرى، لم يكن سوى شاب طبيعي اكتنزت أوعيته الدموية بالنخوة العربية الإسلامية اللبقة، وخاصة أنه درس بالأزهر الشريف في أوج عطائه العلمي والوطني والقومي والإسلامي.. إلى اللغة التوثيقية للأحداث، مما يجعل هذا العمل من الأعمال التي لا بد والله من اقتنائها، لأنها بالفعل كشفت عن كل الوجوه الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، بل السياسية للأحداث في فترة في غاية التشابك والوجوم والبهوت، بل إنها من الفترات المنسية في التاريخ، وهذه فترة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليس في مصر وحدها، ولكن في منطقة العروبة وفي تركيا وفي أوروبا المتوحشة بالاحتلال والنهب والسلب كلها، ولذلك فكما قلت – وأنا المتهم باللغة – بأننا أمام لغة توثيقية، إلى جانب السمات الأخرى للغة صبحي فحماوي طيلة العمل، ومن دواعي توثيقية اللغة عنده، حرص الراوي على تسجيل تاريخ الأحداث يوما بيوم وسنة بسنة، وهذا الذي أجهد فحماوي في مسائل الكشف عن المجهول، أو قل عن المسكوت عنه، فقد أبهرتَني، وأنت تبحث في التاريخ عن بصمات الثورة الفرنسية المجرمة في مصر، وفي غضبةِ الشعبِ المصري من المستعمر الفرنسي المجرم، وكان توضيحك لثورة القاهرة الأولى والثانية ضد الفرنسيين يكشفَ من وحي عروبتك عن أدوارٍ خفية في هذه الأحداث، خاصةً مع ضربِ الفرنسيين للقاهرة، وللمسجد الأزهر الشريف، وتكشف بلغتك التوثيقية عن آراء حقيقية، ومنها على سبيل المثال وقوف اليهود، وهم كانوا من أكبر تجار القاهرة والإسكندرية إلى جانب الفرنسيين في ضربهم للأزهر الشريف ص 69، وكيف كانوا عونا للفرنسيين، وفي خدمة جيش الاحتلال المدجج بالأسلحة، وكيف أنتقم الفرنسيون من شيوخ القاهرة باعتبارهم هم الذين أشعلوا ثورة أهل القاهرة على المستعمر الغاصب، وكيف أعدم الفرنسيون للشيوخ الكبار وألقوا بجثثهم في مجرى النيل.

آسف لأنني أطلت عليكم، ولكن وقبل أن أنهي كلامي دعوني أُبدي إعجابي بعنوان الرواية “خنجر سليمان”، فقد كان يكفي المؤلف أن يجعل سليمان الحلبي هو عنوان العمل، ولكنه ومع بطولة سليمان وتدريبه على هذه الآلة في مقاومة المحتل وفي غزة الحرة الشريفة، جعل الإبداع، أو دفع الإبداع الآلة لتكون موازية لقيمة صاحبها، وليكون الخنجر الموجود في متحف الإنسان في باريس.. هكذا هو الإنسان حسب قيمهم، وسليمان الحلبي بدعم من أهل غزة الذين دربوه وبرمجوه وأهدوه الخنجر هدية، وكما قال له  الغزاوي المُدرِّب علي ناصر الصباغ: إنه ليس أداة للقتل وسفك الدماء، وإنما هو أداة للكرامة والعزة والشرف.

وهكذا أستطيع أن أؤكد أن الروائي العروبي صبحي فحماوي قدم عملاً كما شائقا شائكا صعبا، إذ وضع يده في مرجل النار، فوثق تاريخا وشخصية تناساها الجميع، كاشفا بلغته التاريخية، الوجدانية، التوثيقية، المعلوماتية، الروائية عن وجهٍ تاريخي صراعي بامتياز، لعب على فن الشخصية وظهورها والكشف عن لثامها بذكاء حاد يُحسب له.. وفي النهاية كشف عن مكنون إنساني ووجداني وروحاني في شخصيته، ألا وهو حبّه لمصر والإسكندرية ومدنها ونيلها وبحارها، فرأينا في عملك المتميز الإسكندرية والقاهرة والصعيد وشبرا خيت، وكل مدن مصر تتحدث عن نفسها.. أشكرك ألف شكر على هذا العمل المُجهد المتعب الشائك الذي – بحق- تفوّقت فيه على جهود كل الأكاديميين والروائيين المعاصرين.. أشكرك مجددا وأشكر القراء الأعزاء

د.بهاء حسب الله – الإسكندرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق