الرئيسيةمقالات

خواطري لهذا الصباح النفاق… الصراع الصامت في أرواحٍ فقدت بوصلتها

فاطمة أبو واصل إغبارية

بطبعٍ لا يعرف الالتواء، عشتَ زمنًا طويلًا في مجتمعٍ بسيط، صادق، لا يحتاج أهله إلى ارتداء الأقنعة كي يمرّوا بين الناس. هناك، كانت الكلمة تخرج من القلب قبل اللسان، وكانت السكينة تُظلّل الأيام لأنها بُنيت على صدقٍ لا يتكلّف، وطمأنينة لا تتصنّع.
لكن ما إن خرجت من عرينك، حتى رأيت العالَم بوجهٍ آخر؛ وجهٍ يتبدّل فيه الناس كما تتبدّل المواسم، وتتحرّك فيه الأقنعة بخفةٍ تدعو للدهشة والوجع معًا.

صار النفاق في بعض البيئات نمطَ حياة، لا حالةً عابرة. ترى الشخص يبتسم وهو يضمر غير ما يقول، يتباهى بما لا يملك، ويتصنّع ما لا يشعر… تتأمل الشريط الذي يمر أمامك كل يوم، فتسمع لسانًا لا يشبه القلب، وتشاهد صراعًا داخليًا ينهش صاحبه دون أن يشعر. كيف يعيشون هكذا؟ ولماذا يختار الإنسان أن يُمسك بكلمة لا تنتمي لروحه؟

النفاق، في جوهره، ليس سوى خوفٍ مستتر:
خوف من الحقيقة، من نظرة الناس، من مواجهة الذات، من قول “لا” في زمنٍ يقدّس الموافقة العمياء.
ولذلك يتشبث البعض بالقناع، حتى لو كان خانقًا، لأنهم يظنون أن الصدق سيُعرّي هشاشتهم، بينما الحقيقة أن الصدق يحرّر، والنفاق هو ما يستهلك الروح حتى آخر رمق.

وفي اللحظة التي تقرّر فيها أن تقول ما تشعر به، وأن تعلن ما تؤمن به دون تزييف، تكتشف أنك خفيف، أنك لا تحمل أثقالًا ليست لك، ولا تضع على وجهك ملامح لا تنتمي إليك.
أما أولئك الذين يعيشون بوجهين، فإن الصراع يلتهمهم بصمت… فهم يعيشون حياةً ظاهرةً بوجه، وباطنةً بوجه آخر، حتى يفقدوا القدرة على تمييز مَن هم أصلًا.

وما يُثير الغثيان ليس وجود النفاق بحدّ ذاته، بل تحوّله إلى سلوك طبيعي، وإلى عادةٍ يومية لا يتحرّج منها البعض.
فمتى يعود هؤلاء إلى رشدهم؟
حين يدركون أن الصدق ليس تهوّرًا، بل شجاعة. وأن الحقيقة ليست فوضى، بل نجاة.
حين يفهمون أن أقسى ما يفعله الإنسان بنفسه هو أن يهرب من ذاته، وأن يعيش في صراع داخلي يتغذّى على روحه كل يوم.
حين يتصالحون مع أنفسهم، ويعلمون أن للإنسان كرامةً لا تكتمل إلا حين يقول ما يعتقد، ويعتنق ما يشعر، ويترك للقلب مساحةً ليكون صافيًا بلا خداع.

إن العودة إلى الرشد تبدأ من لحظة واحدة:
لحظة يواجه فيها الإنسان مرآته بلا خوف.
من هناك فقط، يبدأ العالم في استعادة وجهه الحقيقي

دمتم سالمين

إغلاق