
ذاتَ زمن، كانت قصيدة واحدة تهزّ عروش الملوك… اليوم، يهزّ “الترند” ملايين الشاشات بقطة ترقص. المفارقة مؤلمة، والسؤال أشدّ: أين اختبأ المثقّف؟
اللغة العربية تعيش اليوم حالة ازدواجية مذهلة: فهي من جهة لغة المعلّقات والفلسفة والتصوّف وملايين الكتب، ومن جهة أخرى صارت لغة “الميمز” والتعليقات المختصرة: “عنجد؟ lol 😂”. الأرقام تقول إنّ العربية تجاوزت الفرنسية والروسية بعدد المستخدمين على الإنترنت، وشركات كبرى مثل “ميتا” و”أوبن إيه آي” بدأت تدمجها أكثر في تقنيات الذكاء الاصطناعي. لكن المفارقة أنّ ما يتعلّمه الذكاء الاصطناعي من العربية غالبًا ليس من “البيان والتبيين”، بل من تعليقات “فيسبوك” المليئة بالأخطاء!
نحن أصحاب “ألف ليلة وليلة”، لكن أكثر الفيديوهات العربية مشاهدة على “يوتيوب” العام الماضي كانت أغنية أطفال عن “القرش الصغير” ومقاطع “برينك prank” قصيرة. الجمهور يريد محتوى سهل الهضم وسريع التمرير، بينما الشعر والفكر يحتاجان إلى مضغ طويل. وهنا تكمن المعضلة: كيف يمكن للثقافة العميقة أن تُنافِس فيديو مدته خمس عشرة ثانية فيه قطة ترقص؟
المشكلة ليست في الثقافة، بل في طريقة تسويقها. فمنذ عقود، ما زال المثقف العربي يتوقّع أن يترك الجمهور مسلسلات “نتفلكس” ليقرأ مقالاته الثقيلة، أو أن يهجر “تيك توك” ليستمع إلى محاضرة من أربع ساعات. لكن الثقافة اليوم تحتاج إلى أشكال جديدة: بودكاست قصير يقدّم الفكرة في دقائق، ريلز يشرح مفهومًا فلسفيًا بذكاء بصري، أو مقطع كرتوني يعرّف الأطفال بكتّابنا بدل كتب مدرسية جامدة. الحقيقة الصادمة أنّ آخرين يشرحون الفيزياء الكَمِّيّة على “تيك توك” بجاذبية، بينما يفشل مثقفنا في تبسيط بيت شعر من أربع عشرة كلمة!
الثقافة حيّة، لكن المثقف كثيرًا ما يقف على الرصيف يلوم الناس: يلومهم لأنهم لا يقرؤون، يلوم الشباب لأنهم لا يحفظون الشعر، يلوم المجتمع لأنّه يبحث عن المتعة. وكأنّ دوره الوحيد هو التذمّر. بينما الدور الحقيقي هو المبادرة: أن ينزل المثقف من برجه العاجي ويتحوّل إلى “مؤثّر ثقافي” قادر على استخدام أدوات العصر دون أن يُفرِّط في قيمة الكلمة.
العربية بخير، والثقافة بخير، لكن المثقف العربي هو من يحتاج علاجًا من “فوبيا التريند”. والسؤال لم يعد: “هل العربية مُهَدَّدة؟” بل: هل نملك شجاعة أن نُنافِس قطة راقصة… وننتصر؟

