مقالات
* ألمٌ مُركّب! * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إنتى عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة” * عنوان المقالة: “الأقلية العربية في الداخل واقع من التناقضات والألم المركَّب (1-2-3)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
نعيش كأقلية عربية في الداخل الفلسطيني حالة غير مسبوقة من التناقضات والضغط الوجودِي بسبب ظروف مختلفة، داخلية وخارجية، تتكاتف لتؤثر على هويتنا واستقرارنا وتطورنا الثقافي والاقتصادي والسياسي وغيره من هذه التحديات،
* التمييز الداخلي والظلم في المواطنة
ينبع جزء أساسي من هذه التناقضات بسبب حالة التمييز العنصري من أجهزة الدولة التي تنظر إلينا كأقليّة عربية نظرة مختلفة وغير متساوية مقارنة بأبنائها اليهود، ويتجلى هذا التمييز في الخدمات التربوية والصحيَّة، وفي فرص العمل، وفي توزيع الميزانيات على السلطات العربية، من خلال القوانين التمييرية التي تُشرّع من قبل الأكثرية الحاكمة وتستهدف الوجود الثقافي والقومي والديني للأقلية العربية، وكذلك محاربتها حتى لمسكن المواطن العربي، ولا ننسى سياسة تضييق الخناق على اللغة وعلى الهوية الجماعية.
– ينتج جميع ذلك بسبب التمييز المقصود والممنهج مما يؤدي إلى الشعور بالاغتراب والنفور في صفوف أبناء الأقلية العربية، حيث يجد المواطن العربي نفسه في وطن آبائه وأجداده محاصراً ضمن سياق قانونِي غير عادل، فيؤثر ذلك على قدرته على بناء مستقبل آمن للأجيال الصاعدة ضمن هذه البيئة الغير عادلة.
* الخذلان العربي والنسيان الدولي
وكذلك فإن هذا الخذلان يأتي من خلال محيط الأقلية العربية إقليمياً ودولياً؛ حيث تتخلى أغلب الحكومات العربية المحيطة عن هذه الأقلية المظلومة، بسبب الخوف والضغط الدولي والحسابات السياسية، مما أدى إلى عدم وقوفهم في صف قضايانا في محافل الرأي العام الإقليمي والدولي، ويتم التعامل مع قضايانا على هامش النزاع، دون أن يتم التركيز على التحديات التي تمر بها الأقلية العربية في سياق التمييز والظلم الداخلي.
حيثُ يُنتِج هذا الخذلان حالة عميقة من اليأس والمرارة في صفوف أبناء هذه الأقلية فيجدون أنفسهم محاصَرين داخليا بسبب التمييز والقوانين الجائرة، ومن الخارج بسبب تخلي محيطهم العربي والاسلامِيّ عنهم وكذلك تجاهل المجتمع الدولي لما تعيشه هذه الأقلية وما تواجهه.
* التفكك الداخلي: العنف والانقسام الثقافي
وتزيد حالة التناقض هذه المزيد من الضعف والوهن ناهيك عن استفحال ظاهرة العنف بين أبناء هذه الأقلية، والتفكك الأسري، والنزاعات الداخلية المختلفة.
– يمكن أن يكون ذلك ناتج عن سياسة مُمنهجة تستهدف وجودنا بالإضافة إلى حالة الإحباط واليأس والضغط، وضعف التكوين التربوي والأخلاقي في الأجيال الناشئة بسبب غياب المرجعيات السياسية والثقافية التفعيلية وضعف المناهج التعليمية والتربوية في المؤسسات التعليمية، وقلّة النماذج الحسنة التي تساعد على تخريج أجيال قوية ومحصَّنه.
– لا شك أن هذا التفكك الداخلي يُنتج إشكاليات عميقة في المجتمع ككل مثل: ارتفاع نسبة الجريمة، ضعف التضامن الداخلي، التفكك العائلي والأسري، اليأس والاغتراب الثقافي والنفسي مما يزيد من ضعف المجتمع ويعمق المحنة التي يعيشها.
* التحديات التربوية والاقتصادية
لا شك أن سياسات التمييز العنصري تنعكس على الأداء التربوي والنطاق الثقافي للأقلية العربية، حيث يشكّل نقص الميزانيات المخصصة للتعليم في القرى والمدن العربية مقارنة بأقرانهم في البلدات اليهودية إضعافًا لقدرات التنافس في فرص العمل والارتقاء في السلم الوظيفِيّ والمهنيّ وغير ذلك من الجوانب، مما يؤدي إلى تراجع قدرات أبناء الأقلية العربية من الخروج من الدائرة الخانقة للتخلف والبطالة.
* سبيل الخلاص: التكاتف الداخلي والتكافل الاجتماعي
رغم جميع التحديات والظروف المعقدة للأقلية العربية، تبقى هناك مجموعة من الفرص للتغيير والنهوض الذاتي من خلال تكاتف أبناء الأقلية العربية، وتضامنهم مع بعضهم البعض، على أسس العدالة والحق والرحمة والتكافل الاجتماعي فيما بينهم، ويكون هذا التكاتف ضمن سياق التمسك بالثوابت والمعتقدات واللُّحمة الوطنية والسياسية والحقوق الإنسانية، والمرجعيات الدينية التي تُستَلهم من قوله تعالى:﴿فالله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين﴾ (يوسف: 64).
– ينبني الخلاص من خلال إعادة بناء البيت الداخلي والتضامن الاجتماعي، بالإضافة إلى محاربة ظاهرة العنف، وحالة الانقسام الداخلي سياسيا ودينيا، حيث يكون هذا مدخلاً للتخطيط لمستقبل أفضل، وعندها يمكن مواجهة جميع حملات التحريض والتحييد والتمييز العنصري بكل ثبات ووعي، بعون الله تعالى… ولكم مني التحية والسلام
* اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والبصيرة في كل عمل، ووفّق أمتنا، وامنح شعبنا الأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1993)
* 20. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألأثنين . 16.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
* جميع امرك بيد الله!
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنتى عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة”
* عنوان المقالة: “سلّم أمرك لله” (2)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– الإسلام دين التوحيد الخالص، حيث تستحقّ جهة واحدة الخضوع الكامل، وهو الله سبحانه وتعالى. هذه الحقيقة الجوهرية تنبع من قوله تعالى في محكم التنزيل:﴿ إِيَّاكَ نَعۡبُدُوإِيَّاكَ نَسۡتعين﴾ (الفاتحة: 5)، أي: نخصّ بالعبادة والاستعانة الله دون غيره، فهو الخالق والرازق، وهو مدبر شؤون الخلق في السماوات والأرض، وهو الكامل في علمه وحكمته.
– ينادي الإسلام أن على الإنسان أن يحرر نفسه من الخضوع لمخلوق، مهما كان هذا المخلوق له سلطان على الأرض، ولا يخضع إلا لله، بهذا التحرّر يتمتع الإنسان بأقصى درجة من الكرامة الإنسانية والحريَّة الحقة، فعندما يسلَّم أمره لله ويضع ثقته به، يتخفف من الخوف والضعف والضغط النفسي التي تنتج بسبب الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة والنفوذ. يقول النبي ﷺ : «عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إنَّ امرَه كلَّه خير…» (رواه مسلم)؛ أي أنَّ الخضوع الكامل لله يقود إلى الخيرية في الأحوال كلها.
– ومن مظاهر الخضوع الخاطئ أن يسلَّم الإنسان نفسه لمخلوق، بسبب الخوف أو على لقمة عيشه، أو بسبب التهديد والنفوذ أو من سطوته، في هذه الحالة يفقد جزءًا من كرامته الإنسانية ويهتزّ يقينه بالله، والنفوس التي تستسلم لمخلوق تتخلى عن التوكل على الخالق، وتقع في شرك الخوف والرجاء في غير محله.
– ينبّه القرآن في أكثر من موضع على هذا الخلل في التوازن التوحيدي. يقول الله تعالى:﴿ ولا تخشوا الناس واخشون﴾ (المائدة:44) ويؤكد أن الخوف الحقيقي يجب أن يتعلق بالله، وهو مالك الخوف والأمن في الدنيا والآخرة. ويقول ﷺ: «لو أنَّ الأُمَّةَ اجتَمعت على أن يَنْفعُوكَ بشِيءٍ لم يَنْفعُوكَ إلاَّ بشِيءٍ قد كتبه الله لكَ، وإنِ اجتَمعُوا على أن يضرُّوكَ بشِيءٍ لم يضرُّوكَ إلاَّ بشِيءٍ قد كتبه الله عليكَ» (رواه الترمذي).
– ينبع هذا اليقين التام بأمر الله وتقديره، ويؤثر تأثيرًا عميقًا في سلوك المسلم، فهو يجعله أكثر صبرًا عند الشدائد، أكثر هدوءًا عند الخوف، أكثر تفويضًا للأمر لله في جميع الأحوال، ويمنحه القوة على اتخاذ القرارات دون الخضوع للتخويف والضغط والتهديد. بهذا تستقر النفس وتطمئن:﴿أَلا بذِكۡرِ اللهِ تطۡمئنُّ القُلُوب﴾(الرعد:28).
– ينبني على هذا الخضوع الخالص محاربة الخرافات والبدع التي تتعلق بأشياء غير الله، مثل التبرك بأضرحة الأولياء، أو الخوف بسبب التمائم والأحجية، أو الخرف من مخلوق أيًا كان، ويؤسس للتوحيد الخالص في الدعاء والنذر والرجاء، وفي الدعاء يجب أن يتجه العبد بقلبه كاملاً نحو الله:﴿ ادعُوني أستجيب لكُم (غافر:60).
ثمَّ هناك مسؤولية على الدعاة والمرشدين أن يبينوا هذا الأصل التوحيدي في الخطاب الديني، حتى تستقر القلوب على اليقين الكامل بالله ويزول الخوف بسبب التعلق بأسباب غير الله، بهذا تستحقّ الجماعة التمكين والنصر:﴿ إن تنصروا اللهَ ينصركُم ويثبت أقدامكُم (محمد:7).
– في النهاية، التقديم الكامل والوحيد يجب أن يتجه لله، هذا التقديم هو سياج التوحيد وعنوان الخلاص في الدنيا والآخرة. فعندما يخضع الإنسان لله ويبرأ من الخضوع لمخلوق، فإنه يكتسب القوة في الحق والنقاء في العمل والنية، ويكون عند حسن ظنه بالله في كل الأحوال… ولكم مني التحية والسلام
* اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والبصيرة في كل عمل، ووفّق أمتنا، وامنح شعبنا الأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1994)
* 21. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألثلاثاء . 17.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
* الرباط المُقدّس!
اعط من وقتك دقيقتين ونصف فقط أعِدك أنك لن تخسر
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنتى عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة”
* عنوان المقالة: “لا نسب فوق العقيدة: من نوح إلى إبراهيم إلى محمد ﷺ” (3)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– في زمنٍ تغلِب فيه العصبيات، وتُقدَّم فيه الأنساب والعلاقات العائلية على المبادئ والقيم، يجيء القرآن ليقلب هذه المعادلة من جذورها، ويعلن بوضوح: لا نسب فوق العقيدة، ولا رابطة تعلو على رابطة الإيمان.
ها هو نوح عليه السلام، النبي الصابر، يرى ابنه يغرق أمام ناظريه، فيتوسل إلى ربه أن ينقذه، فيجيبه الوحي بصيغة قاطعة: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ (هود: 46). فليس كل من خرج من صلبك هو من أهلك، بل الأهل هم أهل العقيدة والرسالة.
ثم يأتي إبراهيم عليه السلام، الذي دعا لأبيه طويلًا، وظل يرجو هدايته، حتى إذا تبين له أنه عدو لله، لم يتردّد: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ (التوبة: 114)، إن العقيدة إذا استقرت في القلب لا تساوم على عاطفة، ولا تتردد أمام قرابة.
ويكمل المسار ذاته مع نبينا محمد ﷺ، الذي لم يُنقذ أبا لهب قربُه منه، ولا دمه الذي يجري في العروق، بل خُلد في سورة تُتلى إلى يوم القيامة: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ (المسد: 1). وأُمر النبي ﷺ أن لا يغفر حتى لأقرب الناس إليه إن ماتوا على الكفر: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَو كانوا أولِي قُرْبَى..﴾ (التوبة: 113).
– إن هذه المواقف الثلاثة، من نوح إلى إبراهيم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ترسم لنا خطًا بيانيًا واضحًا: أنّ العقيدة هي الهوية العليا، وأن معيار القرب والبعد في ميزان الله هو الإيمان لا الدم.
وفي واقعنا العربي والإسلامي، ما زال كثير من الناس يُقيمون العلاقات على أساس العائلة، الحزب، القبيلة، أو المصلحة. فيُعظّم الظالم لأنه “من جماعتنا”، ويُخذل صاحب المبدأ لأنه “ليس منّا”. وهنا يكمن الخلل الذي نخر في جسد الأمة.
فلو أردنا إصلاحًا حقيقيًا، فعلينا أن نعيد ضبط البوصلة:
• لا نُناصر فاسدًا لأنه قريب.
• لا نُقصي مُصلحًا لأنه غريب.
• لا نحكم على الناس بأسمائهم وأنسابهم، بل بمواقفهم وقيمهم ومبادئهم.
ولا يَعني ذلك قطيعة للرحم أو جفاء في التعامل، بل يعني أن الولاء العقدي لا يُساوَم عليه، وأن القلوب لا تنعقد إلا لمن ناصر دين الله، ولو لم يكن بيننا وبينه نسب أو مصلحة.
لقد قال الله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ (المائدة: 55).
وقال: ﴿المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ (التوبة: 71).
وجعل الأخوة الإيمانية أعلى من كل نسب: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10).
فهل نراجع أنفسنا؟
هل نعيد بناء علاقاتنا الاجتماعية والسياسية والدعوية على هذا الميزان القرآني الخالص؟
إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من هنا: حين لا نضع نسبًا فوق العقيدة، ولا نُقيم وزنًا لمن لم يُقِم للهِ وزنًا… ولكم مني التحية والسلام
* اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والبصيرة في كل عمل، ووفّق أمتنا، وامنح شعبنا الأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1995)
* 22. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألأربعاء . 18.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

