مكتبة الأدب العربي و العالمي
عُذْرِيٌّ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ (قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ) أ.د. لطفي منصور
رَأَتْ مِنْ بَعِيدٍ خَيالًا يَتَهادَى في مَشْيِهِ، وَقَدْ جَلَسَتْ عَلَى مَقْعَدٍ في حَدِيقَةٍ تَرْتَشِفُ عَصيرًا بارِدًا، وَبِيَدِها كِتابٌ تُقَلِّبُ صَفَحاتِهِ.
أَخّذَ الشَّبَحُ يَقْتَرِبُ شَيْئًا فَشَيْئَا وَما فَتِئَ تَكَشَّفَ عَنْ صُورَةِ إنْسانٍ يَحْمِلُ بِيَدِهِ حَقِيبَةً سَوْداءَ صَغِيرَةً، وَقَدْ وَضَعَ نَظارَةً سَوْداءَ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقُبَّعَةً بَيْضاءَ عَلَى رَأْسِهِ.
كانَ بَطِيئًا في مِشْيَتِهِ، وَقَدْ أَثارَ مَنْظَرُهُ اهْتِمامَها فَأَخَذَتْ تَرْقُبُهُ لِتَعْرِفَ مَنْ هُوَ وَإلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. زادَ اهْتِمامَها قامَتُهُ الْفارِعَةُ الْمُنْتَصِبَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى بَقايا بَأْسٍ وَقُوَّةٍ.
قالَتْ في نَفْسِها هَذِهِ الْقامَةُ لَيْسَتٍ غَرِيبَةً عَنِّي، سَأصْبِرُ قَليلًا حَتَّى يَأْخُذَ مَقْعَدَهُ في الْحَدِيقَةِ بَعْدَ أنْ رَأَتْهُ يَتَوَجَّهُ إلَيْها.
لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها حِينَ مَرَّ بِجانِبِها لِيَصِلَ إلَى مَقْعَدِهِ الَّذِي تَعَوَّدَ أَنْ يَجْلَسَ فِيهِ، شَكَّتْ في أَمْرِهِ أَنَّهُ هُوَ، غَيْرَ أنَّها خَشِيَتْ مِنَ الظِّنَّةِ، فَالرِّجالُ أَشْباهٌ، وَقَدْ مَرَّتْ ثَلاثَةْ عُقودٍ لَمْ تَرَهُ فِيها، وَالزَّمَنُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ.
جَلَسَ الرَّجُلُ في مَقْعَدِهِ، وَخَلَعَ طاقِيَّتَهُ وَنَظّارَتَهُ السَّوْداءَ، وَأَخْرَجَ كِتابًا مِنْ حَقِيبَتِهِ، وَأَطْلَقَ تَنْهِيدَةً عَميقَة
أَتْبَعَها بِزَفْرَةٍ أطْوَلَ، تَنُمَّانِ عَنْ هُمْومٍ تَراكَمَتْ في صَدْرِهِ.
يا إلَهي قالَتْ بِانْفِعالٍ شَدِيدٍ: إنَّهُ هُوَ . ما هَذا الشَّعْرُ الْأَبْيَضُ بَعْدَ جُمَّةٍ سَوْداءَ فاحِمَةٍ كَانَتْ مَحَلَّ إعْجابِ الطّالِباتِ. لَقَدْ زادَها الْبَياضُ وَقارًا، وَاسْتَرَقَتْ نَظْرَةً إلَى عَيْنَيْهِ السَّوْداوَيْنِ فَأَدْهَشَها بَرِيقُهُما، وَحاوَلَت أنْ تَنْظُرَ إلَى اسْتِدارَةِ وَجْهِهِ، فَتَرَكَتْ مَتَاعَها واسْتَدارَتْ حَوْلَ الْمَقْهَى، وَوَقَفَتْ في مَكانٍ تَراهُ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي، فَأَعجَبَتْها هَيْبَتُهُ مَعَ أَخادِيدَ قَليلَةٍ في جَبينِهِ. أمّا خَدّاهُ فَبَقِيا في نَضارَتِهِما.
عادَتْ سَليمَةُ مُسْرِعَةً إلى مَقْعَدِها، وَأَخَذَ قَلْبُها يَخْفِقُ بِشِدَّةٍ وَاحْتارَتْ ماذا تَعْمَلُ.
ما أعْظَمَ صُدْفَةً كَهَذِهِ، وَما أَجْمَلَها!! ها هُوَ أَوُّلُ حُبٍّ لَها لا يَبْعُدُ عَنْها سِوَى عَشْرَةِ أمُتارٍ، وَأَخَذَتْ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْبُطَ عَلَى قَلْبِها، وَبَدَأَ شَريطُ الذِّكْرَياتِ يَجْرِي في خَلَدِها.
كانَ الدُّكْتور مَجْدِي أَحَبَّ أَساتِذَتِها إلَيْها. كانَ أُسْتاذًا لِلْعَرَبِيَّةِ وّالْأَدَبِ العَرَبِيِّ، وَكانَتْ تَعْشَقُ دُروسَهُ في كُلِّيَّةِ إعْدادِ الْمُعَلِّمينَ حَتَّى النُّخاعِ، لا تَمَلُّ الْحَدِيثَ عَنْهُ دائِمًا بَيْنَ زُمَلائِها وَزَميلاتِها، وَشاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّها تَعْشَقُهُ.
الْحَقُّ إنَّ سَليمَةَ عَلَى جانِبٍ كَبيرٍ مِنَ الذَّكاءِ وَالْفِطْنَةِ، تَتَقَدَّمُ الطُّلّابَ كُلَّهُم، وَكانَ ذَلِكَ يُعْجِبُ أُسْتاذَها وَيزيدُ احْتِرامَهُ لَها، فَبَرَزَتْ مِنْ بَيْنِ الطُّلّابِ، وَنالَتْ جَوائِزَ التَّفَوُّقِ.
كانَتْ عَلَى يَقينٍ أَنَّها بَعْدَ تَخَرُّجِها سَتَتَزَوَّجُ مِنُ الدُّكْتور بالرَّغمِ مِنْ فارِقِ الْجِيلِ بَيْنَهُما دونَ أنْ تُفاتِحَهُ بِهَذا.
وَالْحَقُّ أَيْضًا أَنَّهُ كانَ يَميلُ إلَيْها في قَلْبِهِ.
كُلُّ هذا مَرَّ في ذاكِرَةِ سَليمَةَ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ.
تَوَثَّقَتِ الْعَلاقاتُ بَيْنَ الْعاشِقَيْنِ بَعْدَ التَّخَرُّجِ ، وّأَخَذا يَتَبادَلانِ رَسائِلَ الْمَوَدَّةِ والْغَرامِ، والْحَدِيثِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْبَيْتِ وَأَحْلامِهِما في السَّعادَةِ وَالْهَناءِ.
الْمُصِيبَةُ كُلُّ الْمُصيبَةِ أَنْ يَغْرَقَ الْإنْسانُ في أَحْلامٍ لا تُوافِقُ الدَّهْرَ.
تَقَدَّمَ أُسْتاذُ سَليمَةَ الدُّكْتور مجدي لَطَلَبِ يَدِ طالِبَتِهِ سَليمَةَ مِنْ عائِلَتِها فَرَدُّوهُ بِرَفْضٍ قاطِعٍ ، بِحُجَّةِ أَنَّها مَعْطِيَّةٌ وَهِيَ طِفْلَةٌ لِابْنِ خالٍ مِنْ لِداتِها.
وَقَعَ الْخَبَرُ وُقُوعَ الصّاعِقَةِ عَلَى الْعاشِقَيْنِ. لَمْ يُؤْمِنا في الْبِدايَةِ حَتَّى تَقَدَّمَ “عَريسُها” الْمُعْطَى وَأَهْلُهُ لِتثْبيتِ الْعَطاءِ وَكِتابَةِ الْكِتابِ.
كانَ والِدُ سَليمَةَ صارِمًا لَيْسَ لِلْعَواطِفِ تَأْثِيرٌ عَلَيْهِ، رَفَضَ تَوَسُّلاتِ سَليمَةَ وَدُمُوعَها، وَرَجاءَ والِدَتِها وَلَمْ يَقْبَلْ أيَّ اعْتٍراضٍ مِنْ أَحَدٍ، وَزُفَّتْ سَليمَةُ لِابْنِ خالِها، وَمَكَثَتْ مَعَهُ ثَلاثَ سَنَواتٍ لَمْ تَحْمِلْ فيها. فطَلَّقَها زَوْجُها وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى.
اِشْتَدَّ الشَّوْقُ وَالْحَنينُ عِنْدَ سَليمَةَ بَعْدَ طَلاقِها لِعَشيقِها الْأَوَّلِ ، فَأَخَذَتْ تَسْأَلُ عَنْهُ ، أخْبَرُوها أَنَّهُ تَرَكَ الْبِلادَ بَعْدَ زَواجِها وَسافَرَ إلَى خَارِج الْبِلادِ إلَى مَكانٍ لا يَعْلَمُونَهُ.
وَمَرَّتِ السّنِينُ وَالْأَيّامُ وَرَفَضَتْ سَليمَةُ الزَّواجَ مِنْ أحَدٍ وعاشَتْ بذِكْرَياتِها مَعَ أُسْتاذِها، واشْتَغَلَتْ في التَّدْرِيسِ، وَأَصْبَحَتْ كاتِبَةً مَروقَةً، وَكَتَبَتْ قِصَّةَ حُبِّها الْأوَّلِ.
هَكَذا اسْتَعْرَضَتْ سَليمَةُ في ذاكِرَتِها ما جَرَى لَها مِنْ أحْداثٍ بَعْدَ تَخَرُّجِها مِنَ الْكُلِّيَّةِ.
وَعِنْدَما رَأَتْ مَجْدِي تَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ في حَياتِها. دَبَّ الْأَمَلُ في عَزيمَتِها. كَيْفَ تَتْرُكُ اِخْتٍيارَ قَلْبِها عَلَى بُعْدِ خُطُواتٍ مِنْها دُونَ أَنْ تُعانِقَهُ. مَنْ يَمْنَعُها هذا؟ هِيَ الْآنَ سَيِّدَةُ نَفْسِها. زواجُها كانَ عَلَى كُرْهٍ مِنْها، وَصَبَرَتْ هَذِهِ السِّنينَ الطَّويلَة أَمَلًا في لٍقائِهِ.
فُوجِئَ الدُّكْتُور مجْدي بامْرَأَةٍ وَسِيمَةٍ تَقِفُ أمامَهُ وَتُحَمْلِقُ في عَيْنَيْهِ، وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَها ابتِسامَةٌ اِخْتَلَطَ في رَسْمِها الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ، وَالرَّجاءُ وَالْأمَلُ ، نَظَرَ إلَيْها مَجْدِي بِلَهْفَةٍ وَتَحَنُّنٍ ، وَلَمْ يَعْرِفْها لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ ثُُمّ نَطَقَ بِصَوْتٍ عالٍ سَ لِ ي مَةُ وَتَعانَقا طَوِيلًا مَعَ تَصْفِيقِ الْحُضورِ لَهُما.
قالَ الدُّكْتور مجدي لِلْأَديبَةِ المَشْهُورَةِ سَليمَةَ: لَنْ نَفْتَرِقَ بَعْدَ الْيَوْمِ!!!
أَجابَتِ الْأَديبَةُ سَليمَةُ: سَنَصْنَعُ حَياةً جَديدَةً لَنا وَلِمُجْتَمَعِنا.