مطبخ همسة التراثي

الأكلة الشعبية البرغل بحمص

لم تكن الأكلة الشعبية البرغل بحمص مجرّد أكلة منتشرة في الساحل السوري، بل حملت هذه الاكلة دلالات ثقافية واجتماعية عميقة..
وأصبح طقساً عائلياً تنقل خلاله الأمهات أسرار الطبخ، ليبقى جزءاً حياً من تراث وهوية المجتمع الساحلي.
بما تحمل من رمزية في لحظة تَجمع أفراد العائلة وتعزز روح اللمة. كما ارتبط بولائم الأعراس، حيث يُطهى بكميات كبيرة ويُشارك فيه الجميع، تعبيراً عن الكرم والمساواة. ورمزياً، أصبح طقساً عائلياً تنقل خلاله الأمهات أسرار الطبخ، ليبقى جزءاً حياً من تراث وهوية المجتمع الساحلي.
عن طقوس هذه الأكلة الشعبية الذي اشتهر بها ساحلنا السوري الجميل بما تحمل من رمزية
حيث في صباحات الأعياد على الساحل السوري،. العريق حين تمتزج نسائم البحر برائحة الزعتر البري، ينبعث من البيوت عبق البرغل بحمص طبق من الذاكرة القديمة كأنّه نداء دفء لا تخطئه الحواس. ليس مجرد طبق يُطهى، بل طقس قديم، عمره آلاف السنين ..طقس من حنين ولمة ومحبة، يُمارس كما تُمارس الطقوس الروحية، بتأنٍ ووقار..

تبدأ الحكاية من فجر اليوم، حين تستيقظ الأمهات باكرًا، قبل ضوء الشمس، وتضع القدر النحاسي الكبير على الموقد. يُغسل البرغل الخشن بعناية، ويُنقع الحمص منذ الليلة السابقة، وكأنهما على موعد مقدّس لا يحتمل التأجيل. يُطهى الخليط على نار هادئة، تتخلله نكهات البصل المكرمل، وزيت الزيتون، وتوابل لا تُقاس بالكيل، بل بالمحبة التي تُسكب مع كل رشة.

وحين ينتهي الناس من صلاة العيد، يعودون إلى البيوت حيث ينتظرهم الطبق الجماعي، مفروشًا في صحن كبير تتقاطع عنده الأيادي. يُؤكل البرغل بحمص من طبق واحد، كما يأكل الأحبة، لا تفصل بينهم حواجز أو مواعيد مسبقة. تكتمل فيه معاني المشاركة والمساواة، حيث لا يُميّز الغني عن الفقير، ولا الضيف عن صاحب البيت.

وفي الأعراس، يتحول البرغل بحمص إلى رمزٍ للفرح الجماعي. يُطهى في قدور ضخمة في باحات البيوت، وتتعالى رائحة الطهو مع الزغاريد، بينما تتشارك النساء في التحضير، وكلٌّ تحمل سرّها الصغير في الطعم. هو إعلان غير معلن للكرم، حيث لا يُسأل أحد عن عدد الأطباق أو الضيوف، فالجميع مدعوون، والجميع مُرحّب بهم.

أكثر من ذلك، البرغل بحمص هو درس أول في الطهي تتلقّاه الفتيات من أمهاتهن. على رائحة القدر، تُروى الحكايات، تُقال الأمثال، وتُمرَّر وصفة ليست مجرد مكونات، بل ذاكرة مجتمع بأكمله. وصفة تحفظها البنات في القلب قبل أن يحفظنها في دفاترهن، لتنتقل كما تُنقل الجدائل من جيل إلى جيل.

هكذا، يظل البرغل بحمص أكثر من طبقٍ شعبي. هو لحظة دفء، وطقس انتماء، وتوقيع على استمرار هوية لا تبهت، مهما تبدّلت الأزمنة.
عاشق اوغاريت..
د.غسان القيم

 

إغلاق