مقالات

لا يعود الأكاديمي وطبيب الجراحة وإعادة الترميم الفلسطيني البريطاني غسّان أبو ستّة، إلى وطنه، فلسطين، إلا أوقات الحروب والأزمات / فمن هو ؟

عادةً، يفضّل المغتربون زيارة أوطانهم في أوقات الرخاء للاستجمام ورؤية الأهل والاستئناس بصحبتهم. ويفرون منها وقت الحروب والأزمات، سيّما إذا كان لديهم وطن آخر يتوفر لهم فيه العمل والمكانة الاجتماعية ومختلف سبل الرفاه.

على العكس تماماً من هذا “العادي”، لا يعود الأكاديمي وطبيب الجراحة وإعادة الترميم الفلسطيني البريطاني غسّان أبو ستّة، إلى وطنه، فلسطين، إلا أوقات الحروب والأزمات ليمد يد العون لأهله ويُساعد في تضميد جراحهم والتخفيف عنهم، غاضاً الطرف عن الخطر الكبير الذي يهدد حياته كما حيواتهم.

منذ عام 1987، إبّان الانتفاضة الأولى، وهذا دأب د. غسّان حيث شارك في علاج الجرحى وهو ما يزال طالباً في كلية الطب. لاحقاً، مع بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 عاد من الخارج إلى غزة، متطوعاً كطبيب ميداني لمعالجة الأعداد الكبيرة من المصابين.

وخلال أربع حروب على قطاع غزّة عاصرها، (أعوام 2008-2009 و2012 و2014 و2018)، خلافاً للعدوان الإسرائيلي المتكرر وآخره عام 2021 واستمر 11 يوماً، دأب د. غسان على الفعل نفسه. ترك كل شيء للعودة لمد يد العون والتطوع لتطبيب المصابين في مساحة جغرافية يائسة، يعلم جيداً تبعات الحرب والاعتداء العسكري عليها في ظل حصار يحرمها حتى من التزوّد بأبسط الأدوات والمستلزمات الطبية.

ولأنه يعتبر “المنطقة العربية كلها وطناً له”، عمل د. غسّان جراح حرب في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان أيضاً، بحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

أخيراً، وقبل ساعات من إحكام إسرائيل الحصار التام على قطاع غزة في أعقاب شن “المقاومة الفلسطينية” عملية “طوفان الأقصى”، نجح د. غسّان مرة أخرى في النفاد إلى قطاع غزة عبر معبر رفح لينضم إلى فرق القطاع الصحي التي تكافح من أجل إنقاذ أكثر من 10 آلاف مصاب سقطوا في 10 أيام فقط من القصف الإسرائيلي الشرس،بما تعجز معه قدرات القطاع الصحي لأي بلد قوي، ما بال قطاع صحي متهالك بالفعل.

من هو غسّان أبو ستّة؟

عقب دراسته الطب في فلسطين، أكمل د. غسّان تعليمه في جامعة غلاسكو في المملكة المتحدة حيث تدرب وعمل بعد التخرج في العاصمة لندن. وقد ركّز في عمله الأولي على الأطفال بدرجة كبيرة، فشغل ثلاث زمالات هي: جراحة القحف والجمجمة للأطفال في مستشفى غريت أورموند ستريت للأطفال المرضى، وجراحة الحنك المشقوق في المستشفى نفسه، وإعادة ترميم الإصابات في مستشفى لندن الملكي.

وفي عام 2011، التحق الطبيب البريطاني الفلسطيني بالمركز الطبي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأصبح رئيساً لقسم الجراحة التجميلية والترميمية في المركز منذ عام 2012 وحتى عام 2020. كما عمل رئيساً ومسؤولاً طبياً لبرنامج إصابات الحرب لدى الأطفال والعيادة المتعددة التخصصات بإصابات الحرب.

ورغبةً منه في توظيف خبرته الواسعة في العمل في إسعاف مصابي الحروب، شارك د. غسان، عام 2015، في تأسيس برنامج “طب النزاعات” في معهد الصحة العالمي في الجامعة الأمريكية في بيروت. وعمل مديراً له.

وفي عام 2020، عاد د. غسان من جديد إلى المملكة المتحدة ليستأنف عمله في الجراحة التجميلية والترميمية في القطاع الخاص. وهذا علاوة على كونه محاضر شرف في مركز دراسات إصابات الانفجار في جامعة إمبريال كوليدج في لندن، ومحاضر أول زائر في فريق أبحاث الصراع والصحة في جامعة كينغز كوليدج في لندن، والمسؤول الطبي لمبادرة الرضوح في المكتب الإقليمي لشرق المتوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية.

وهو عضو أيضاً في مجلس إدارة جمعية إنارة، المؤسسة الخيرية المعنية بتوفير الجراحة الترميمية للأطفال من مصابي الحرب في الشرق الأوسط. ويحتفظ بعضوية في مجلس أمناء مؤسسة المعونة الطبية للفلسطينيين في المملكة المتحدة. يساعد د. غسّان أكذلك في لجنة التمويل الدولية التابعة للمعهد الوطني للبحوث الصحية في المملكة المتحدة.

إثارة القضية الفلسطينية من منظور طبي

علاوة على عمله الطبي والأكاديمي وتطوعه لإسعاف جرحى الحروب في غزّة والمنطقة، يوظّف د. غسّان بشجاعة معرفته الطبية في خدمة القضية الفلسطينية، وضحايا الحروب من المدنيين والأطفال بوجه عام، إذ يكتب بشكل منتظم عن تبعات الحصار الإسرائيلي على غزة على الأطفال بما في ذلك انتشار الأمراض المعدية والأوبئة، وتفاقم جائحة كورونا، والأضرار الجسدية والنفسية على الأطفال، مدعماً كتاباته بأمثلة حيّة من واقع يعيشه خلال عمله الميداني.

وقد وثّق العواقب الصحية للنزاع المطول وإصابات الحرب في كتاب طبي بعنوان “إعادة بناء المريض المصاب في الحرب” إثر ارتفاع أعداد المصابين الذين تستقبلهم الجامعة على خلفية الحرب السورية.

علاوة على عمله الطبي والأكاديمي وتطوعه لإسعاف جرحى الحروب في غزّة والمنطقة، يوظّف د. غسّان بشجاعة معرفته الطبية في خدمة القضية الفلسطينية، وضحايا الحروب من المدنيين والأطفال بوجه عام

وهو أيضاً أول طبيب عربي يضع منهاجاً دراسياً متخصصاً عن “طب النزاع والحروب” لمساعدة الأطباء الجدد على إجراء التدخلات الجراحية لمصابي الحروب سواء كانت جسدية أم نفسية، بعدما لاحظ أن معالجة المصابين في مناطق النزاع بالمنطقة العربية عادة ما تتم “استناداً على معلومات وأبحاث من مؤسسات غربية، وهي لا تتطابق مع أنظمتنا وإمكاناتنا الصحية”، حسبما قال في تصريح صحافي حديث.

لم يكن ذلك جديداً على د. غسّان الذي قام عقب الحرب على غزة عام 2007، وبعد تدمير أكثر من نصف المنازل وسقوط مئات الجرحى وانقطاع الماء والكهرباء، بـ”صياغة خطة شاملة للصدمات الحادة واحتياجات غزة” عقب وصوله إلى المدينة ضمن وفد من منظمات دولية كبرى.

ساهم د. غسّان أيضاً، من خلال مشاركته في الحروب السالفة الذكر، في العديد من الدراسات حول أثر الحرب على معدل وفيات الأطفال، ونسب سوء التغذية واستهداف المؤسسات الصحية في فلسطين ولبنان. وقد أنجز أوراقاً بحثية عن “كيفية استهداف المؤسسات الصحية في بلدان الحروب” و”أثر الحرب الأمريكية على العراق على معدل وفيات الأطفال وسوء التغذية”.

منذ بداية الحرب الإسرائيلية الحالية الشرسة على غزة، لا يكتفي د. غسان بتضميد الجراح، وإنما يوظّف حساباته عبر مواقع التواصل الاجتماعي لفضح المجازر والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب بحق الأبرياء والمدنيين وغالبيتهم من الأطفال.  “لا مكان أكثر وحدةً في الكون، من محيط سرير طفل موجوع لم تعد لديه عائلة تعتني به”، مما نشر حديثاً.

وهو يتحدث في اللقاءات الإعلامية القليلة التي يتسنى له إجراءها في أوقات الراحة، مع وسائل إعلام عربية وغربية، عن النقص الحاد في الأدواء والمستلزمات الصحية، وأزمة غياب الوقود والطاقة وتهديد الأرواح، وحجم الإصابات الهائل الذي يُعجز الأطقم الصحية، وارتفاع أعداد المصابين من الأطفال (قال إن بين 30 إلى 40% من المصابين الذين يتعامل معهم هم أطفال). وتحدث عن إقامته بشكل كامل في المستشفى لأن الخروج منها والعودة إليها في منتهى الخطورة.

رغم أن ما يفعله د. غسان هو فعل إنساني تماماً، إلا أن منزل أسرته في بريطانيا تعرض لمضايقات من جهاز مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية حيث قال إن زوجته تعرضت لصدمة وسُئلت عن سبب سفره إلى غزة بل ومن دفع تذكرة سفره و”كأنه تنقصها أسباب لتشعر بالقلق”.

أخيراً، وبرغم أن ما يقدمه لوطنه وللإنسانية يبعث على الثناء، يعرب د. غسّان عبر حسابه في تويتر عن شعوره بـ”الإجلال والإعجاب بالعاملين في القطاع الصحي في غزة” حيث “يلتحق الأطباء والممرضون بأي مستشفى يمكنهم الوصول إليه. ولا يغادرون العمل إلا لضمان حصول أسرهم على ما تحتاجه ثم يعودون إلى العمل. يعملون ويأكلون وينامون في نفس المبنى أحياناً لعدة أيام”.

المصدر : رصيف 22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق