
وعاد من جديد إلى بوسطن يتسلّق صهوة عوده الشقيّ في ليلة ربيعيّة ارتدى الدفء زواياها . . في أسبوع الآلام ، ليلة الجمعة العظيمة خشعت الأضواء والوجوه . . رنّم الآلام والصلب على طريقته . . سمعت الأجراس من البعيد تُقرع ، رأيت أغصان النخيل والزيتون والأزهار الملوّنة في أيدي الأطفال . . سمعت ترانيم المؤمنين البسطاء . . في كل نبضة وتر يستفيق الزمان وتقترب الوجوه . . تبعثرت شظايا الحنين حين غمر العود وعزف لخبز أمّه وقهوتها . . لبصمة في قعر فنجان التمنيّات . . لغمرة ما زال يتوق اليها ترقد في الوجدان . . لصفائح ذهبيّة . . لشاطئه المجنون . . للبحّارة . . لمدن تتوق للحب والسلام . . عوده يرنّ الذكريات في الوجدان . .
والنغمات أجنحة سحريّة حين يعزفها رامي ، والابن مرآة أبيه البلّورية . . رامي يعزف المستحيل . . يبدو وكأن البيانو يدمن جنون عزفه المدموغ ببصمة استثنائيّة . . عزفه يفتح أبواب الروح . . يسمعنا صهيل الخيول على شاطىء الأصيل . . رامي حالة موسيقيّة خاصة ينخطف مع الموسيقى إلى سراديب الابداع . .
رافقه على التشيلو إبن عمّه الموهوب ، ساري المتمكّن والحالم والذي يتميّز بكلاسيكيّة فرسان الزمن الغابر . . عزفه كهمسات المدّ والجزر . . وعناق الندى لزهور الصباح . . دهشة المطر على نافذة أيلول . .
الموسيقى غذاؤهم الروحيّ . . طموحهم . . أحلامهم اللامحدودة . . تجري في عروقهم سريان الأنهار والجداول . . موسيقاهم لغة غير مسبوقة . . إيقاعاتها متميزّة . . صاخبة وكلاسيكيّة طافت بنا في مدن سحريّة . . مدن الزمان المشتاق . . قطفنا الياسمين النقيّ . . عانقنا الماضي وتهنا على أرصفة الشوق . . ارتدينا ثوانيه بشغف كما يرتدي زهر اللوز أروع حلله في فصل التجدّد . . أشعلت موسيقاهم قناديل العتمة فاحتال الضوء المبهر على مسرح الأحلام وعلت الأصوات بهجة كما تعلو أصوات الحصّادين في المواسم . .
بينما نعيش سحر اللحظات تساءلت في سرّي عن الوقت . . الذي يسرق عمرنا . . فرحنا . . ليته يتركنا لفترة اطول في أمكنة تعزف الابداع بدل الفراغ . . كيف نجاريه ونحن نكبر في الثانية . . والمشيب الوقور بالمرصاد . . ربّما نخافه رغم أنه سلّم الحكمة . . نرتقيه بتأنٍ . . تشتعل قلوبنا بشرارة غريبة لا ندرك كنهها . . هذا المساء تسلقنا سلّم التميّز وارتقينا مع النغم . .مع الكلمات . . مع الحنين الممتلىء في حنجرة ثملت من غدير النجاح لكنها متعطشّة إلى كؤوسه . . عَبَرَ الطيف البعيد لثانية واختفى بعد ومضة متمردّة كما تختفي النوارس في العاصفة المتمردّة . .
وجوهنا مزهوّة . . ننخطف بسلاسة مع روعة النغمات . . نخاف ان نستفيق من غفوة الأحلام . . سنبقى على مقاعدنا وكأننا على بساط الريح والفانوس السحريّ نتحكّم فيه . . ما أروع مدن الابداع . . ندخلها كما يدخل النسّاك معابد الصلاة . . نخاف أن تتسارع الثواني على نبض الإيقاع وتنطفىء الشموع فجأة . . ويخيّم الصمت المدوّي . . وتغفو اللحظات في حنايا الذاكرة . . ولا يبقى سوى صورة تختال في حنايا الذاكرة . . ولا يبقى سوى صورة تختال كلّما اشتاقت الروح لرقصة الابداع . .
أوجيني