شعر وشعراءمقالات

شكرا البروفيسور والناقد المقدسي الكبير د. لطفي منصور Lotfy Mansour.

قراءةٌ في قصيدة الشّاعِرِ الكبيرِ فادي قبَّاني النثريَّة:
نثريَّةٌ رائِعَةٌ تفيضُ برموزٍ وعناصِرَ وافِرَةٍ، تُشَكِّلُ هيكَلَها المتميِّز. تستلُّ من التّاريخِ الموغِلِ في القِدَمِ أساطيرَ تُضْفي العراقَةَ على أجواءِ القصيدة.
تشمَلُ القصيدةُ أربَعَ فِقْراتٍ ونتيجَةً
، تُشَكِّلُ كُلُّها وحدَةً عُضْوِيَةً متماسِكَةً ومتلاحِمَة كجسمٍ واحِدٍ. هذا الشّكْلُ مَيِّزَةٌ إيجابيَّةٌ للقصيدة.
الفكرَةُ الأساسُ كما أفهمُها:
كلُّ فَقْرَةٍ من القصيدَة تبدَأُ بِفِعْلِ الطَّلَبِ والرَّجاءِ “عَلِّمِيني”، ولا أقول الأَمرَ، مُوَجَّهٍ لِنِصْفِنا الْآخرِ، لِيُغْدِقَ عليْهِ الأصالةَ في الوجود.
هذه الأفعالُ التي تفتَتِحُ الفِقْرات توحي أنَّ المرأَةَ هي أصْلُ المعرِفَةِ، ومستودَعُها. نفهمُ من هذا أنَّ الشّاعِرَ يُؤْمِن أنَّ المرأةَ مخلوقٌ إنسانِيٌّ مُسْتَقِلٌّ غيرُ تابِعٍ لِلذَّكَرِ؛ وهذا المخلوقُ مُحتاجٌ لِلذَّكَرِ، والأخيرُ مُحتاجٌ إلَيْهِ أكثرُ، لأنَّهُ هو الأَصلُ والنَّوْعُ في الوجود.
وَلْنَنْتَقِلُ إلى الفِقْراتِ نفسها، لنعرِفَ ماذا يطلبُ الشّاعِرُ مِنَ الأُنْثَى أن تُعَلِّمَهُ:
– عَلِّميني كَيْفَ أتوبُ مِنْكِ
وَكَيْفَ لا أتَشَرْنَقُ
كَرائِحَةِ الْبُنِّ عَلَى
شَفَتَيْكِ
———-
يعترفُ الشّاعِرُ أنّ المرْأَةَ هي صاحِبَةُ العلمِ والمعرِفَةِ، وأنَّ الرُّجُلَ يَسْتَقي منها ما يحهلُهُ، فَأَيٌُ فَخْرٍ لَهُ عَلَيْهَا.
الطَّلَبُ الأوَّلُ هو التَّوْبَةُ. واستعملَ حَرْفَ الْجِرِّ مِنْ وهي البعضِيَّة بَدَلَ إلَى وهي للوصول، لِأَنَّ الإنسانَ مخلوقٌ منها من بَدَنِها وروحِها التَصَقَ بها، قَبْلَ أنْ ينسلِخَ عنها بالولادَةِ. وحقيقَةُ التَّوْبَةِ هنا لا تَوبَةَ. إِذْ كَيْفَ يستطيعُ الانفلاتَ منها، من حُبِّها وعِشْقِها وهو جُزْءٌ منها؟ فالتعبيرُ أتوبُ مِنْكِ رائِعٌ لِأنَّ فِيهِ مَعْنًى لطيفًا دقيقًا قَلَّ مَنْ ينتَبِهُ إلَيْهِ.
إِذْ كَيْفَ يُصْبِحُ شَرْنَقَةً، وهي صِفَةٌ للرَّجُلِ اللّا مُبالٍ سُمِّيَ بدويبَةٍ غَيْرِ مكتملَةٍ، لا يُبالي النَّاسُ بها. كما أنَّ المرْأَةَ لا تُبالي بِأَثَرِ القهوَةِ أو ريحِها على شَفَتَيْها بعدَ ارْتِشافِها.
– عَلِّمِيني كَيْفَ أكونُ رَجُلًا
آخَرَ
يَطْوي الأَمْسِ
ويمضي..
———
الشّاعِرُ لا يستطيعُ أنْ ينسى الماضي، ويمشي. لا
له ذكرياتٌ وتجارِبُ مَعَ الأُنثَى لَيْسَ له غِنًى عَنْها، لا يَغْفَلُ عَنْها، فالماضي لا يُنْسى لأنَّهُ الأصلُ. فهو أيِّ الشّاعِرُ يغمُزُ بِطَرْفٍ خَفِيٍّ أولئِكَ الذينَ ينسَوْنَ التّاريخَ والماضيَ القريبَ أوِ البعيد.
– عَلِّميني كَيْفَ لا
أُحَبِّرُ قَصائِدي
بِعِطْرِك
كَيْفَ آتي بِأُمٍّ ثانيَةٍ
بحَوّاءَ ثانيَةٍ
بحبيبَةٍ بِإيريس
ثانِيَة
———
في هذه الفَقْرَةِ كشفُ الشّاعِرُ عن أنثاهُ المفضَّلَةِ.
هذه قراءَتي، أتدرونَ ما هي؟ إنَّها الأَرْضُ والوَطَنُ، الذي لا يستبدَلُ بِوَطَنٍ آخَرَ، أو بِأرضٍ أُخْرَى. بَدأَ الشّاعِرُ بالتلميحِ بِوَصْفِ الأُنثى بالفَقرةِ الثانِيَةِ بذكرِ الماضي الذي لا يُنْسَى.
يسأَلُ الشّاعِرُ أسئِلَةً إنكاريَّةً: كَيْفَ يغفَلُ آخرون عن الماضي؛ كَيْفَ لا ينظُمُ القصائِدَ بعطرِ الأَرْضِ السليبَةِ وطيبِها. وَهَلْ له وَطَنٌ ثانٍ بدلَ وطَنِ (لبنانَ وسوريا، بيروتَ والشّامَ؟). لِأنَّ الوطنَ قد عَشَّشَ في عقلهِ الواعي واللّاواعي.
وفِي آخرِ الفقرَةِ يستمطِرُ التّاريخ لِرَفضِهِ فكرَةَ الاستبدال. ويجزِمُ: حَتَّى لَو جَاءُوا بِإيريسَ( وهي إلَهَةُ القُوَّةِ والعنفِ في الميثولوجيا الإغريقيّةِ) لن تكونَ أنثاهُ رهينَةَ الاستبدال.
– عَلِّميني كيف..
أفُكُّ طَلاسِمَ
سِحْرِكْ
كَيْفَ أنجو من
أساطيرِك
وكيفَ أعودُ مِنْكِ
مِنْ هذياني
من إدْماني فِيكِ

لِأَحيا بعينيكِ
أو أرْحَلَ بِسَلام
———-
الأَرْضُ والمرْأَةُ سواءٌ. من الصعبِ أن نُفَرِّقَ بينَهُما. فالأرضُ تُزْرَعُ والمرْأَةُ تُزْرَعُ، والأرضُ تُنتِجُ والمرْأَةُ تُنْتِجُ، وكُلُّ جمالٍ في الأَرْضِ جمالٌ في المرْأَةِ. ولشدَّةِ عِشْقِ الشّاعِرِ بالأرضِ ساوى بينَهُما في الفقراتِ كُلِّها وخاصَّةً هَذِهِ الفَقْرَةَ.
فسِحْرُ المرْأَِةِ كَسِحْرِ الأَرْضِ، والتَّأْثيرُ في النفسِ واحِدٌ، وسِرُّ هذا الجمال وطلسمُهُ نفسُهُ.
وشاعرُنا يرغَبُ بفكِّ هذا الطلسمِ ومعرِفَةِ أسبابِه
لأنَّهُ يُحِسُّ بوَقعِهِ عليْهِ، وهو أسطورَةُ الحياةِِ.
يُؤَكِّدُ الشّاعِرُ هذا في الأشطُرِ الأخيرَةِ بعدَ أن أصبحَ حبُّ الأنثى: المرأةِ أوِ الأَرْضِ يسير في دَمِهِ ونَسْغِهِ، وجُزأً من كيانه، وهو ما يسميه بالإدمان والهَذيان.
الشطران الأخيران هما لحظةُ التنوير لهذه القصيدةِ النثريَّةِ التي هي قصّةٌ شعريَّةٌ. وقد أفصَحَ الشّاعِرُ عن هذه اللّحظةِ التي هدفها الحبُّ والسلام. فعينا المرأةِ أجملُ ما فيها، لاجتماعِ عناصِرُ الأَرْضِ بهما، ففيهما خضرةُ البحر وزرقَةُ السَّماءِ وحُلْكَةُ اللَّيل. وبياضُ الثلج.
وأخيرًا أتوجَّهُ إلى شاعِرِنا الكبير الأخ فادي قَبّاني مدير المنتدى الأدبي اللبناني لأشكرَهُ على المعاني السامية التي تضمنتها قصيدَتُكَ بجانِبِ الخيالِ المصَوِّرِ والمجازات الرائِعَةِ والرَّصْفِ اللَّفْظي، والتلميح المشغِلِ للتفكير. وأشكركَ شكرًا خاصًّا بِأَنْ أعطيتني الفرصَةَ لأَحْظى بمتعةٍ ذهنيَّةٍ بالقراءةِ والتعقيب. وماهي إِلَّا قراءةٌ واحدة لنصّ القصيدة الذي يستحقُّ عِدَّة قراءات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق