مقالات
بوصلة التوحيد * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري” * عنوان المقالة لخاتِمة السلسلة: “بين زيف الهيمنة ونور التوحيد: خلاصات الوعي المعاصر” (13)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد: بين الصراع الكوني واختلال الموازين
حين يتأمل المؤمن ما يحيط به من أحداث، يدرك أنه لا يعيش صراعًا سياسيًا عابرًا، بل هو صراع جذري حول المرجعية والمعنى والغاية من الوجود.
إنه صراع بين منظومة التوحيد التي تجعل الله هو المرجع الأوحد، وبين منظومات الشرك الحضاري التي تقدّم الإنسان، أو السوق، أو الدولة، أو الشهرة كبدائل تعبَّد لها القلوب والعقول.
وإن هذه السلسلة لم تكن إلا محاولة لكشف هذا التحوّل الخفي: من عبادة الله إلى استبطان الطاغوت في القيم والمفاهيم.
* أولًا: التوحيد مشروع تحرر شامل لا طقس تعبدي
“لا إله إلا الله” ليست زينة تُعلّق على الجدران، بل هي إعلان تمرد على كل هيمنة بشرية لا تستمد شرعيتها من الله. قال تعالى: ﴿فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ (البقرة: 256).
فلا توحيد بلا كفر صريح بالطاغوت، ولا إيمان حقيقي في ظل الخضوع للمنظومات الجاهلية الجديدة.
وقد عبّر سيد قطب عن هذا المعنى بقوله: “إن كلمة التوحيد لا تُقال لفظًا باللسان، بل هي منهج حياة وموقف حازم من كل صور العبودية لغير الله.”
* ثانيًا: الشرك المعاصر… مفاهيم مطلية بطلاء الحداثة
الشرك اليوم لم يعد صنمًا يُعبد من دون الله، بل أصبح يُقدّم في صورة مبادئ إنسانية ومصطلحات براقة:
• “الحرية” التي تعني التخلص من الدين لا من الظلم،
• “النجاح” الذي يُقاس بعدد المتابعين لا بصدق الرسالة،
• “الحداثة” التي تقطع مع الوحي لتلتحق بسوق الاستهلاك.
وهكذا يُسلب العقل المسلم من داخله، ويُعاد تشكيله ليتماهى مع ثقافة الانقياد لا ثقافة التوحيد.
ثالثًا: موقف الإسلام… تحرر لا خضوع
جاء الإسلام ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
وقد جسّد النبي ﷺ هذا المعنى في سيرته، فكان قرآنيًّا في مواقفه، لا يُجامل سلطانًا، ولا يسكت عن منكر، قال ﷺ: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” (رواه أبو داود)، وبذلك يكون الجهاد بالوعي، بالكلمة، بالموقف، هو جوهر المشروع الإسلامي، لا الانزواء أو التبرير للباطل.
* رابعًا: الجيل الجديد… بين الانقياد والبناء
– جيل اليوم محاصر بسيل من المؤثرات التي تُبعده عن التوحيد الحقيقي، لكنه يملك فرصة عظيمة: أن يُعيد اكتشاف الإسلام لا بوصفه طقسًا بل مشروعًا.
– جيل ينتج إعلامًا حرًا، ومنصات تعليمية تربط بين العقل والوحي، وجيل يرفض أن تُختطف هويته باسم الترفيه، أو يُدجّن باسم الواقعية، هنا يكمن جوهر المعركة القادمة: صناعة وعي توحيدي يعيد ضبط البوصلة الحضارية.
* خامسًا: التوحيد… مشروع لا يموت
التوحيد ليس لحظة وجدانية عابرة، بل أفق متجدد.
قال تعالى: ﴿إن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون﴾ ﴿الأنبياء: 92﴾، ولا سبيل لبناء أمة واحدة إلا بوحدة المرجعية: الله وحده.
ولهذا فمشروع التوحيد باقٍ ما بقي الصراع، وهو الكلمة التي لا تموت، والراية التي لا تسقط.
* وأخيرًا
في زمن يتماهى فيه الباطل مع الزينة، ويُقزَّم فيه الإسلام في زوايا التعبد الفردي، لا بد من وعي جديد يعيد التوحيد إلى موقع القيادة.
ومن شاء النجاة فليركب سفينة التوحيد، ولْيعلم أن “لا إله إلا الله” ليست مجرد نجاة فردية، بل مشروع مقاومة حضارية.
وما هذه السلسلة إلا دعوة لاستعادة المعنى، وإحياء الوحي في زمن الغفلة… الى لقاء الغد بمشيئة الله مع جديد المقالات
ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2019)
* 17 . محرّم .1447 هـ
* السبت . 12.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

