نشاطات

العنف والإجرام والكسب السريع في الداخل الفلسطيني: جذور المشكلة وسبل المواجهة

بقلم: د. محمد طلال بدران

تشهد مناطق الداخل الفلسطيني تصاعدًا خطيرًا في معدّلات العنف والجريمة، حيث أصبحت عمليات القتل، وتصفية الحسابات، وتجارة المخدّرات والسلاح جزءًا من مشهد يومي يهدد نسيج المجتمع. والأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة باتت مقترنة بثقافة “الكسب السريع”، التي تجرّ الشباب إلى مستنقع الجريمة دون إدراك لعواقبها. فكيف نشأت هذه الظاهرة؟ ولماذا تفاقمت إلى هذا الحد؟ وما الحلول الممكنة لكسر هذه الدائرة المدمّرة؟

أولًا: الخلفية الاجتماعية والسياسية للجريمة في الداخل

يختلف العنف في الداخل الفلسطيني عن العنف في المجتمعات الأخرى، لأن أسبابه تمتد إلى عوامل مركّبة، أبرزها:

1. تهميش اقتصادي واجتماعي ممنهج: تعاني المدن والبلدات العربية من نقص في الموارد، وقلة في فرص العمل، وتردٍّ في الخدمات الأساسية، مما يخلق بيئة خصبة لانحراف الشباب نحو طرق غير مشروعة للكسب.

2. تفكّك النسيج المجتمعي: أدى ضعف دور العائلة والمؤسسات التربوية، وغياب القيادات الفاعلة، إلى انحسار القيم الاجتماعية الرادعة للجريمة.

3. انتشار السلاح: تفشي الأسلحة غير القانونية جعل العنف وسيلة سهلة لتصفية الحسابات، مما عزّز ثقافة القوة بدلًا من ثقافة القانون.

4. تقصير المؤسسة الشرطية: هناك اتهامات متكرّرة بتواطؤ الشرطة الإسرائيلية في تغذية الجريمة، إما بعدم ملاحقة العصابات بجدّية، أو بتسهيل تدفّق السلاح، مما خلق إحساسًا بانعدام الأمن.

ثانيًا: الكسب السريع كوقود للجريمة

أصبح الكسب السريع محركًا رئيسيًا لانخراط الشباب في عالم الجريمة، حيث يُنظر إلى المال السهل كبديل عن سنوات من الدراسة أو العمل المضني. ومن أبرز المجالات التي أصبحت مصادر “رزق” غير مشروع:

تجارة المخدرات، التي أصبحت منتشرة بين الفئات الشابة، مدفوعة بالربح السريع والإفلات من العقاب.

الخاوة والابتزاز، حيث تفرض عصابات إتاوات على أصحاب الأعمال والتجّار مقابل “الحماية”.

عمليات القتل المأجور، التي باتت تُدار كـ”صناعة” تحقق أرباحًا ضخمة لمنفّذيها.

غسيل الأموال والمراهنات، حيث يتم استخدام أرباح الجريمة في مشاريع ظاهرها شرعي، لكنها تُغذي استمرار العنف.

ثالثًا: الأثر المدمر للجريمة على المجتمع
انعدام الأمان: أصبحت العائلات تخشى على أبنائها، سواء من الاستهداف أو الانجرار خلف العصابات.

التدهور الاقتصادي: تهرب رؤوس الأموال العربية إلى الخارج خوفًا من الابتزاز والسرقة.

ضياع الأجيال الشابة: أصبح العنف جزءًا من الهوية اليومية، ما يجعل الأطفال والمراهقين أكثر تقبّلًا لهذا الواقع.

رابعًا: الحلول الممكنة

1. إحياء دور العائلة والتربية القيمية: يجب أن يكون للأسرة دور رئيسي في زرع القيم الإسلامية والأخلاقية التي تحمي الأبناء من الانجراف في دوامة العنف.

2. بناء اقتصاد بديل: لا يمكن مكافحة الجريمة دون خلق فرص اقتصادية عادلة تشجع الشباب على العمل الشريف بدلًا من الانحراف.

3. مواجهة انتشار السلاح: الضغط على المؤسسات الأمنية لملاحقة مصادر السلاح غير القانوني، وفرض عقوبات رادعة على حامليه.

4. تعزيز الوعي الديني: توجيه خطب الجمعة والدروس الدينية للحديث عن خطورة المال الحرام والعنف، وربط ذلك بالنصوص الشرعية التي تحذّر من الظلم والإفساد في الأرض.

5. محاربة ثقافة الثراء السريع: ضبط المحتوى الإعلامي الذي يروّج للحياة الفارهة دون جهد، والتركيز على نجاحات الشباب في الأعمال المشروعة.

6. دور المجتمع المدني: تعزيز المبادرات الشبابية التي تخلق بدائل إيجابية للفراغ الذي يقود إلى العنف.

خاتمة
إن تفشي العنف والإجرام في الداخل الفلسطيني ليس مجرد أزمة جنائية، بل هو تهديد وجودي للنسيج المجتمعي. ومع غياب الردع الحقيقي وتفاقم ثقافة الكسب السريع، يصبح من الضروري التحرك على جميع المستويات، بدءًا من العائلة، مرورًا بالمؤسسات التربوية والدينية، وصولًا إلى الضغط السياسي لوقف السياسات التي تساهم في ترسيخ هذه الظاهرة. فالمجتمع الذي يسكت عن الجريمة، إنما يحفر قبر استقراره بيده.
بقلم: د. محمد طلال بدران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق