شعر وشعراء
أغنية فوق السحاب – نزهة ابوغوش

لاح لي المكان من بعيد، كومة حجارة متناثرة، بقايا بيت كان يومًا عامرًا بالحياة. تقدمتُ ببطء، محاولًا أن أسكت هواجسي، أن أكتم ما يمور بداخلي من خوف وتوجس. كنت أعرف أن الحرب لم تترك شيئًا، لكنها أيضًا لم تأخذ كل شيء، بدليل هذا الرجل الجالس هناك، فوق الأنقاض، يغني بصوت حزين متقطع.
كان فتحي. لكن هل هو فتحي حقًا؟ لم تفضِ لي الشخصية عن مكنوناتها الداخلية، كأن الرجل الذي أعرفه قد تبخر، ولم يبقَ إلا صدًى لحب ضائع وذكرى لا تموت. كان وجهه شاحبًا، وعيناه هائمتين في اللاشيء، يردد بصوت باكٍ أغنية فريد الأطرش:
“أحبابنا يا عين ما هم معانا
رحتوا وراحوا عنا
ما حد منا تهنى
عيني يا عيني
في كل يوم يزيد شوقي إليهم….نفسي اشوفهم مرة الفرقة صعبة مرة …”
طوال عمره بقي تحت وطأة حدث مرعب، لكن لم أكن أعلم أن اليوم قد قتله الحب.
خمسة أعوام أحبّها، خمسة أعوام وهو يبني حلمًا صغيرًا بين عينيها، يكتب لها أجمل الكلمات، يبتسم لها فتضيء عيناها ببريق يشبه وعدًا سريًا بينهما. وأخيرًا، استطاع ان يدخر مهرها؛ فقرر أن يطلبها من أهلها، أن يصنعا مستقبلهما معًا، أن يمنح هذا الحب شرعيته الكاملة.
لكن الحرب كانت أسرع منه وغيرت كل المعايير. ضاعت الحبيبة تحت الأنقاض، وانهدم بيتها فوق رأس أهلها. لم يبقَ أحد، لم يبقَ شيء سوى هذا الركام الذي يجلس فوقه الآن، يغني وبلا وعي، بلا توقف.
يعرف أنه الآن يجلد نفسه، يعيد المشهد في عقله ألف مرة، يتساءل إن كان يمكن أن يفعل شيئًا ليمنع كل هذا. رائحة البحر كانت فيها سحر غريب، تصله مع نسمات المساء، لكنها لم تكن كافية لتعيده إلينا.
في قلبه اشتياق يصعب روايته، يفيض مع الأغنية، مع النشيج الذي يقطع صوته بين الكلمات. هذا المشهد، عيناه الزائغتان وسط الدمار، حرّكت المياه الراكدة في داخلي، جعلتني أدرك أن بعض الخسارات لا يمكن تعويضها.
المصائب التي حاقت بنا أخذت كل شيء، لم تترك حتى القدرة على البكاء. شعور لم يتبلور بعد، لكنه يخبرني بشيء واحد: فتحي لم يعد هنا، حتى لو كان جسده ما زال يغني.