مقالات

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (11) لماذا نشعر أننا غرباء؟ (12)

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران - مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية - السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (12)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* هل الغربة قدر أم خيار؟ قراءة في سبيل استعادة الإحساس بالانتماء

إن الحديث عن الغربة في الأوطان يثير تساؤلًا جوهريًا: هل الاغتراب قدر محتوم أم خيار يُتخذ بوعي؟ إننا نجد في القرآن الكريم إشارات متعددة إلى مشاعر الغربة التي قد تصيب الإنسان، سواء كانت غربة جسدية بالهجرة عن الديار، أو روحية بفقدان الانتماء في الوطن نفسه، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ (النساء: 66)، مما يبرز ثقل الشعور بالابتعاد عن الوطن والارتباط العميق به.

* الغربة بين الإكراه والاختيار
الغربة ليست دائمًا أمرًا قسريًا، فقد تكون خيارًا لمن يرى في الهجرة أو العزلة ملاذًا، لكنها تصبح قدرًا حين تفرضها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكم من أفراد يعيشون في أوطانهم، لكنهم يشعرون فيها كأنهم غرباء، يفتقدون الإحساس بالانتماء نتيجة غياب العدالة، أو تهميش الهوية، أو انقطاع صلتهم بموروثهم الثقافي والديني، وهنا تبرز أزمة الغربة النفسية، حيث لا يكون الإنسان بعيدًا عن وطنه جغرافيًا، لكنه يشعر بأنه منفصل عنه روحيًا وفكريًا.
– إن الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، يسعى للانتماء إلى جماعة تحقق له الأمان النفسي والاجتماعي، وعندما يفقد هذا الانتماء، سواء بفعل القهر أو نتيجة اختيار شخصي، يشعر بالاغتراب الداخلي، وهو أشد أنواع الغربة وطأةً، وفي التاريخ الإسلامي، نجد أن الهجرة لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت وسيلة لحفظ الدين والمبدأ، كما في هجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، حيث كانت الهجرة ضرورة لحماية الرسالة، وليست مجرد انفصال عن الأرض.

* الاغتراب في العصر الحديث
اليوم، ومع تسارع العولمة، نشهد أشكالًا جديدة من الغربة، إذ لم يعد الاغتراب مرتبطًا فقط بترك الوطن، بل أصبح كثير من الأفراد يشعرون بالاغتراب وهم في وسط مجتمعاتهم، بسبب اختلاف القيم، أو نتيجة طغيان الماديات على الروحانيات، أو بفعل سياسات الإقصاء والتهميش، وقد أشار بعض علماء الاجتماع إلى أن الحداثة، رغم ما قدمته من رفاهية، زادت من شعور الإنسان بالعزلة، حيث تراجعت الروابط الأسرية والاجتماعية لصالح الفردانية المفرطة.
-ومن جهة أخرى، فإن التكنولوجيا رغم ما أتاحته من تواصل بين البشر، إلا أنها ساهمت في زيادة مشاعر الاغتراب، حيث يعيش البعض في عالم افتراضي بعيدًا عن الواقع، فيفقد تدريجيًا صلته بالهوية والانتماء، وهذا ما يجعلنا نعيد التفكير في مفهوم الغربة، ونبحث عن سبل لاستعادة الشعور بالانتماء، ليس فقط للوطن بالمعنى الجغرافي، بل للهوية والقيم التي تشكل أساسًا للوجود الإنساني.

* استعادة الإحساس بالانتماء
ولذلك، فإن استعادة الإحساس بالانتماء تبدأ بإعادة قراءة العلاقة بين الفرد ووطنه، واستعادة القيم التي تجعله جزءًا فاعلًا فيه، بدلًا من أن يكون مجرد ساكن فيه، وهذا يتحقق عبر إدراك أن الهوية لا تُفرض بالحدود الجغرافية، بل تُبنى بالوعي والالتزام بالمبادئ التي تمنح الإنسان جذوره المتينة. وقد قال النبي ﷺ: “بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء”، مما يشير إلى أن الغربة ليست دائمًا مادية، بل قد تكون غربةُ قيمٍ ومبادئ في مجتمع فقد بوصلته.
– إن الاغتراب عن الوطن أو فيه ليس مصيرًا لا مفر منه، بل هو أزمة يمكن تجاوزها بالفهم العميق للهوية، وتعزيز الارتباط بالدين والثقافة، والاندماج الإيجابي في المجتمع دون الذوبان، فكلما ازداد الإنسان وعيًا بمكانه ودوره، زال الشعور بالغربة، وعاد إلى وطنه بقلبه وإن فارقه بجسده.
* وأخيرًا
– نحن هنا في أرض الرباط قضيتنا مختلفة، فالتجذّر والبقاء والرباط هو قدرنا على أرضنا؛ -أرض الإسراء والمعراج- ولذلك لا بد من فهم هذه المعادلة بشكل قاطع ومن غير تلعثم أو تردد. ولكم مني التحية والسلام

* أمّا عنوان مقالتنا الأخيرة في هذه السلسلة فهو: ( من الغربة إلى الفعل: كيف نحول الشعور بالاغتراب إلى قوة تغيير؟ )

* طاب صباحكم ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
مقالة رقم: (1877)
20. شعبان . 1446هـ
الأربعاء . 19.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
– السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة
* الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (12)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* مِن الغُربة إلى الفعل: كيف نحول الشعور بالاغتراب إلى قوة تغيير؟

الاغتراب ليس مجرد إحساسٍ بالعزلة أو الانفصال عن المجتمع، بل هو حالة يمكن أن تتحول إلى دافعٍ قوي للتغيير والبناء، فالشعور بالغربة، سواء كان فكريًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا، هو لحظة وعيٍ تتطلب استجابةً واعيةً لا تقتصر على التأمل والشكوى، بل تمتد إلى الفعل والعمل.

* الغربة كفرصة لا كأزمة
كثيرٌ من الشخصيات العظيمة في التاريخ مرّت بمراحل اغتراب، لكنها لم تستسلم لهذا الشعور، بل جعلت منه منصةً للانطلاق، الأنبياء والمصلحون جميعهم عايشوا غربةً في مجتمعاتهم، لكنهم استخدموها لصياغة رؤى جديدة وإصلاح واقعهم، يقول الله تعالى عن النبي نوح عليه السلام: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ (هود: 37) فبرغم رفض قومه، كان الفعل هو الرد الأمثل على الاغتراب.
– إن الاغتراب يكشف لنا مشكلات الواقع ويضعنا أمام مسؤولية الاختيار: هل نذوب في المجتمع رغم مشاكله، أم نعيش في عزلةٍ سلبية، أم نُعيد تشكيل الواقع وفق قيمنا ومبادئنا؟

* من الشعور إلى الفعل: خطوات عملية

1- إعادة تعريف الاغتراب
بدلادًا من أن ننظر إليه كعقبة، يمكننا اعتباره فرصةً لمراجعة الذات وإعادة بناء الهوية، حين يشعر الإنسان بالغربة، فهذا يعني أنه يرى الخلل في الواقع، وهذه أول خطوة للتغيير.

2- الانتقال من النقد إلى البناء
ليس كافيًا أن نشكو من الأوضاع، بل يجب أن نبحث عن حلول ونبادر بالفعل، ولذلك لا بد من تأسيس مشاريع فكرية، اجتماعية أو ثقافية تُترجم وعينا إلى تأثير واقعي.

3- العمل الجماعي لا الفردي
كثيرٌ من المصلحين بدأوا كأفراد، لكن نجاحهم كان في تحويل شعورهم بالاغتراب إلى تيارٍ يُحدث الفرق، النبي ﷺ بدأ وحده، لكن الإسلام لم ينهض إلا حين صار هناك مجتمعٌ من المؤمنين يعملون على تغيير الواقع.

4- التمسك بالقيم والانفتاح على الوسائل
لا يعني رفض الواقع الانفصال عنه، بل يجب أن نحافظ على قيمنا الإسلامية، ونستخدم في الوقت ذاته أدوات العصر لنحدث التأثير.

* نهاية السلسلة: مسؤولية الفرد في مشروع النهضة
الاغتراب ليس قدَرًا حتميًا، بل هو طاقةٌ إما أن تُهدر في الشكوى، أو تُستثمر في البناء، كل واحدٍ منا مسؤولٌ عن تحويل هذا الشعور إلى قوة تغيير، لأن التغيير لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل، من لحظة إدراكٍ صادقة، ورغبةٍ جادة في الإصلاح، وإرادةٍ صلبة في التنفيذ. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

وأخيرًا، فلنكن ممن يُحسنون توظيف غربتهم، ويحولونها إلى قوةٍ تصنع مستقبلًا أفضل، لأن التاريخ لا يذكر من تألموا فقط، بل يذكر من تألموا قاموا فنهضوا.

– موعدنا بمشيئة الله تعالى غدًا مع سلسلة جديدة لكم مني أجمل التحايا والسلام

* طاب صباحكم ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
مقالة رقم: (1878)
21. شعبان . 1446هـ
الخميس . 20.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق