مقالات

الذّاكرة الجريحة وتمثيل الذّات الأنثويّة في رواية “أدركها النّسيان” لسناء الشعلان

بقلم: أ. د. عبد المنعم همت/ السّودان

تمهيد

في عالمٍ تتنازعه الذكرى والنسيان، وتقف فيه الذاكرة على حافةالتلاشي، تأتي روايةأدركها النسيان للاستاذة الدكتورة سناء كاملشعلان كحكاية مكتوبة بماء الألم، ومغزولة بخيوط الحنين، تتقصى ماتخلفه الحياة من ندوب في الذاكرة الإنسانية، حين يتكالب الزمانوالمجتمع على امرأة تجد نفسها بين مطرقة القهر وسندان التقاليد.

الرواية، التي تقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، تُجسدُ سيرة ذاتيةمتخيلة أو واقعية، لا فرق، بقدر ما هي سردٌ لرحلة نسائية تسير علىدرب الجراح النفسية، تفتح أبواب الذاكرة لتكشف لنا عن سيدةتُحاصرها الأعراف، وتخذلها العائلة، وتنهشها مؤسسات يفترض بهاأن تكون راعية، لا قاهرة.

بطلتها، امرأةٌ وُلدت مرتين: مرةً في حضن عائلة تخلت عنها، ومرةً فيخضمّ الألم الذي جعل منها شاهدة على الخذلان الإنساني في أوضحصوره. ومنذ الطفولة، تمرّ هذه الشخصية بجراحٍ متكررة تُغذيها بنيةٌاجتماعية ذكورية وقيمٌ متكلسة، لترسم أمام القارئ رحلةَ سقوطٍمتكرر، تعلوه في النهاية نهضة إنسانية داخلية، نابعة من شعلةٍ لميخمدها القمع.

لا يمكن اختزال الرواية في حكاية ظلم امرأة فحسب؛ بل هي منظومةمن المشاهد التي تفضح انحراف المؤسسات، وتُسائل التواطؤالصامت للمجتمع، وتُدين في الوقت ذاته عقدة الذنب التي يزرعهاالمحيط في ضمير الضحية. لقد استطاعت شعلان أن تخلّق من هذهالتجربة المتفردة وثيقةً أدبية تتوسل بالبوح الصادق والانفعال الجوانيلتكون مرآةً لانكسارات لا يُعلن عنها الكثيرون.

تنهل الكاتبة من اللغة شعريتها دون أن تنجرف في غواية الزخرفة؛فالسرد عندها متوتر، موجع، متدفق، كأنه نزيفٌ لا يتوقف. تتنقل فيسردها بين أزمنة الوجع، تارةً من خلال التداعي الحر، وتارةً عبر خطزمني تصاعدي تتكثف فيه الأحداث نحو ذروة شعورية تتقاطع فيهالحظات الخلاص مع الاعتراف الأخير بأن النسيان ليس سوى وهمجميل.

أما سناء شعلان، الكاتبة الأردنية ذات الحضور النقدي والأكاديميوالأدبي المميز، فهي صاحبة مشروع إبداعي واضح المعالم، يتقاطعفيه الأدب مع قضايا الهامش الإنساني، وتغوص فيه في أعماق الذاتالعربية المتعبة. تنتمي شعلان إلى جيل من الكاتبات العربيات اللواتيلم يكتفين بتوثيق الألم، بل حملن قلمه كأداة تفكيك وكشف، ومن ثممقاومة ناعمة ضد ثقافة الإذعان.

فيأدركها النسيان، تُحيلنا شعلان إلى مأساة أن تكون امرأةً فيمجتمعٍ يكتب سطور الحياة بلغة الغلبة والتملك. لكنها، في الوقت ذاته،تفتح للذات الأنثوية أفقًا للشفاء بالكتابة، وللانتصار بالوعي، وللبقاءفي وجه الريح التي أرادت أن تطفئها.

المحور الأول: تشكّل الذات الأنثوية بين القهر والنجاة

تدور الرواية حول بطلة  تُساق إلى الحياة ككائنٍ هامشي، تائهٍ، يعيشعلى أطراف الاعتراف الإنساني. إنها تمثيل رمزي لامرأة عربية تكابدمن أجل البقاء داخل مجتمعٍ يجرّدها من أدنى مقومات الكينونة.

منذ البداية، يتضح حجم الانتهاك النفسي الذي تعرضت له، إذ تقول:

«لم أعرف لي اسمًا إلا حين كبرتُ وبدأتُ أوقّع على أوراق المدرسة. حتى أمي لم تكن تناديني باسمي».

هذه الجملة الكاشفة ليست مجرد وصف لحالة نسيان، بل إعلانٌ عنهوية مسروقة منذ الطفولة، ومؤشر على ما تعانيه البطلة من اغترابوجودي داخل أقرب دوائر الحياة، الأم والأسرة.

إن ما تمر به الشخصية  ينبع من تَشظٍ داخلي ناتج عن هشاشةالتجربة التأسيسية للذات. وتقول في أحد المواضع، واصفةً علاقتهابجسدها:

«كنتُ أرى جسدي كعقوبةٍ أعيش داخلها، لا أحتمل رؤيته في المرآة،وكأنه خذلني كما خذلني الجميع».

هذا النفور من الجسد هو انعكاس لبنية القمع، حيث  يكون الجسد قيدًا ووسيلةً للعقاب.

يتضح أن الكاتبة تعمّدت تشييد سردية أنثوية تنبني على ما هو نفسيواجتماعي ووجودي في آنٍ معًا. البطلة لا تُساق من حدث إلى آخر، بلتُلقى داخل عالم من الانكسارات يبدأ من الأسرة ولا ينتهي عند حدودالحب أو المؤسسة.

وفي لحظة مواجهة مع ماضيها، تقول:

«لماذا لم يدافع عني أحد؟ لماذا كنتُ دائمًا وحدي، حتى حين كنتُأحتاج إلى يد واحدة فقط تمسك بيدي كي لا أسقط؟».

هذا التساؤل المؤلم  يحمل مرارة الماضي و يكشف عن غياب الحمايةالرمزية التي تمنح الإنسان شعورًا بالأمان الوجودي.

وتتجلى قوة الرواية في أنها  تقدم البطلة  كحالة إنسانية تعيد إنتاجنفسها عبر الألم. تقول في أحد أكثر مقاطع الرواية دلالةً على النهوضالداخلي:

«أكتب لأنني أريد أن أستعيد نفسي، لا لأُشفى فقط، بل لأعرف أننيكنتُ موجودة حقًا في يومٍ ما، وأنّ كل ما جرى لم يكن وهمًا».

هنا تتحول الكتابة إلى مقاومة، إلى وسيلة لاستعادة الذات من حافةالنسيان والانمحاء.

وهكذا، يتضح أن الذات الأنثوية في الرواية  هي الراوي والمروي عنه،وهي التي تُنتج ذاتها من خلال الوعي بالخسارة. فبطلتها كأنثى لاتُعرّف وفقًا للأنوثة البيولوجية، بل ككائن يتشكل في مواجهة مجتمعٍيراه خطأً عليه محوه أو معاقبته.

المحور الثاني: الزمن والذاكرةتفكيك التتابع وتكثيف الأثر

يُمثل الزمن في روايةأدركها النسيان”  بنية دلالية وإيحائية تتقاطعفيها الذاكرة الشخصية مع الزمن الاجتماعي، واللحظة الذاتية معالتاريخ الكامن في الجراح. وتُحيل الرواية إلى أنّ الزمن لا يُقاسبالدقائق، بل بكمية الألم التي يختزنها، وبالندوب التي لا تمحوهاتقلبات التقويم.

تتفادى سناء شعلان في بنائها السردي الخط الزمني التقليدي،فالرواية لا تبدأ من نقطة ثم تتصاعد نحو نهاية، لكن نجدها تقوم علىانثيالات شعورية ومقاطع ذاكرية متداخلة. وهذا ما توضحه البطلة فيقولها:

«في كل ليلة، تأتيني الوجوه التي رحلت، وتعود الأصوات التي لم يقلهاأحد، تنبت الأحداث في رأسي كأنها وقعت الآن، كأنني لم أبتعد عنهاثانية واحدة».

هذا النص يعكس هندسة الزمن النفساني: الماضي  يقيم داخلالحاضر، يوقظه تفصيل صغير، صوت أو رائحة أو حلم.

نلاحظ أن الزمن في الرواية  يلتف دائريًا، كل حدث يفضي إلىاستدعاء آخر، وكل مشهد يُحيل إلى وجع سابق. تقول البطلة:

«ما جدوى أن أعد السنوات التي مضت، وأنا لم أخرج من تلك اللحظةالتي انهار فيها العالم من حولي؟».

إنها لحظة تأسيسية مجازية، لحظة السقوط الأول، التي تتكرر فيصور مختلفة دون أن تُغادرها البطلة فعليًا.

تظهر الذاكرة في الرواية بوصفها أداةً  للاسترجاع  و للمقاومة وإعادةتشكيل الذات. تكتب البطلة لتحتفظ بذاكرتها حية، وكأن فعل التذكربحد ذاته فعل وجودي ضد النسيان الذي يُفقد الإنسان شرعية شعوره.

وفي لحظة إدراك قاطع، تقول البطلة:

«لو لم أكتب، كنتُ سأنسى أنني عشت فعلًا. كنتُ سأصير منسية كماأراد الجميع».

هذا التصريح يجعل من الرواية  وثيقة حياة، تُراد من خلالها استعادةالاعتراف بالذات في مواجهة تاريخٍ من المحو والتجاهل.

النسيان، الذي يبدو في العنوان وكأنه خلاص، يتضح أنه كابوس. فكلما أرادت البطلة النسيان، انفتحت الذاكرة على ألم جديد.

«النسيان لم يكن خلاصًا، بل كان موتًا بطيئًا. كان يعني أنني لم أعدموجودة، أن كل ما عانيته ذهب سدى».

الزمن الطفولي في الرواية يُمثّل ذروة التوتر الزمني. فخلافًا للتصورالنمطي عن الطفولة كمرحلة براءة ودفء، تقدّم الرواية الطفولة بوصفهامصدرًا للخذلان الأول، وجرحًا لا يندمل.

تقول البطلة، في مشهد تستذكر فيه مؤسستها الأولى:

«كنتُ أرتجف في الليالي، لا صوت، لا يد، لا حضن. كنتُ أصرخداخلي ولا يسمعني أحد».

هذا المشهد ليس استرجاعًا بقدر ما هو استنطاق لذاكرة الطفلةالمهملة، وكأن السرد يتلو اعترافًا نيابة عنها.

ثم تتابع:

«تربيتُ على يد غرباء، لا أحد منهم ناداني بـ(ابنتي)… كانوا يقرأوناسمي في الأوراق ولا ينظرون إليّ».

إنه وصف دقيق لاغتراب مزدوج: الاغتراب عن الأسرة، ثم عن المؤسسةالمفترض بها أن تعوّض الخسارة.

من الناحية البنيوية، تعتمد الرواية تقنية الزمن الدائري: حيث النهايةتعيدنا إلى البداية، والحاضر لا يُفهم إلا عبر نبش الماضي. هذهالتقنية تُبرز كيف أن الإنسان لا ينفصل عن تاريخه الشخصي، وأنّالجراح القديمة تُعيد إنتاج نفسها إن لم تُشفى.

وفي أحد المقاطع الحاسمة، تقول البطلة:

«كل ما ظننته انتهىعاد إليّ. حتى الوجوه التي نسيت ملامحها،صارت تطاردني في النوم».

إنها عودة لا إرادية للذاكرة، حيث اللاوعي يُعيد ترتيب الزمن وفقًا لمنطقالوجع، لا منطق التقويم.

  فيأدركها النسيانيتحول الزمن إلى قوة داخلية تحكم حركةالشخصيات وتعيد تشكيل وعي البطلة بنفسها. والذاكرة  وسيلة لتذكرالماضي، كما انها وسيلة لحماية الذات من الذوبان في الصمت.

إنها رواية كتبت نفسها ضد النسيان، واستخدمت أدوات السردوالزمن والبوح لتقول: أنا كنت هناولا يزال في داخلي صوت لميُطفأ.

المحور الثالث: اللغة والسردكتابة الألم بصوتٍ ناعم لايصرخ

في روايةأدركها النسيانتتجلى اللغة كسلاح سردي  يعري الألمبهدوء. تعتمد سناء الشعلان أسلوبًا نثريًا شاعريًا يتوسل المجاز،ويستبطن الرمز، ويبتعد عن المباشرة، حتى حين تتحدث عن أكثرالتجارب وجعًا. إنها لغة ذات طابع تأملي داخلي، تُشيد العالمالنفسي للبطلة أكثر مما تصف العالم الخارجي.

تبدأ الرواية برصد الألم عبر استعارات دقيقة، إذ تقول البطلة:

«ذاكرتي ليست دفترًا أفتحه وقتما أشاء، إنها جرحٌ إذا لمسته نزف،وإذا أهملته تعفن».

هنا تُقدَّم الذاكرة  ككيانٍ حيٍّ مريض، يمتلك حياته وألمه، ما يضفيعليها طابعًا وجوديًا.

ويظهر في مواضع أخرى توظيف الصورة الشعرية للإفصاح عنمشاعر الخذلان:

«كنتُ أمشي بين الناس كأنني ظلّ فقد صاحبه».

الاستعارة هنا تقوم على تصوير الذات بوصفها ظلًّا لا ملامح له، ممايعبّر عن انمحاء الشخصية وسط قسوة الواقع.

الرواية تعتمد في بنيتها على السرد الداخلي، حيث تتحدث البطلة إلىذاتها، تحاكم، تسأل، وتبوح. إن المونولوج هنا  وسيلة اعتراف و تقنيةكشف، تُفضح بها التصدعات.

في أحد المقاطع تقول:

«منذ متى فقدتُ قدرتي على الصراخ؟ لماذا حين كنتُ أصرخ لايسمعني أحد؟ هل كنتُ أصرخ في داخلي فقط؟».

هذا التساؤل المتكرر يعكس بنية الأسلوب التأملي، حيث  يُطرحالسؤال بصفته وسيلة لفهم الذات.

الكاتبة تتعمد القطع الزمني والانتقال المفاجئ بين المشاهد الداخليةوالخارجية، كأن النص يشبه شظايا ذاكرة لا تنتظم. هذا البناء يُعززمن الإحساس بالاضطراب النفسي، ويوظف الغموض كعنصر دلالي. تقول البطلة:

«لم أعد أميز بين الحلم والحقيقة، كل الأشياء اختلطت في داخلي،كأنني أعيش حياتين متوازيتين، ولا أنتمي لأيٍّ منهما»

تستخدم الكاتبة أحيانًا التكرار بوصفه أداة إيقاعية تحمل قوة تأكيدية،كما في قولها:

«أنا بخير. أنا بخير. أنا بخيرلكن قلبي لا يصدقني».

هذا التكرار البسيط المكثف يُحدث تأثيرًا دراميًا، ويمنح النص بُعدًاصوتيًا، كأن البطلة تتحدث إلى القارئ مباشرة في اعترافٍ علني.

الجسد حاضر في الرواية  بوصفه  كيانًا مُعذبًا ومقموعًا. تقول البطلة:

«جسدي شاهد على كل ما مررتُ به، كل ندبة تحكي قصةً صمتُ عنهاطويلًا».

اللغة هنا تسند المعنى إلى الجلد والجرح، لا إلى الذاكرة وحدها،فالجسد يصبح ورقة غير مكتوبة بقدر ما هو موثَّق بالندوب.

المحور الرابع: السلطة والمجتمعالمرأة في مصيدة القمعالمؤسسي والخذلان الاجتماعي

تكشف روايةأدركها النسيانعن بنية اجتماعية قاسية، تُجرد المرأةمن إنسانيتها باسم القانون، والتقاليد، والاعتبارات المجتمعية. إذترسم الرواية خارطة معقدة من علاقات السلطة، حيث تتشابك السلطةالذكورية بالسلطة المؤسسية، وتتآمر العائلة مع المجتمع على كائن هشّيُدعى المرأة، ليُحاصر في قفص مزدوج: داخلي من الألم، وخارجيمن الوصاية والرقابة.

في الرواية،  تظهر الأسرة  بوصفها السلطة القامعة الأولى. تتحدثالبطلة عن علاقتها بالأم بمرارة دامغة:

«أمي لم تكن أماً، كانت سجّانة تنتظر لحظة ضعف لتدينني. لا أتذكرحضنًا، ولا كلمة دفء. كأنها أنجبتني صدفة، وتركتني عقابًا للسماء».

هذا التوصيف القاسي  يُدين  نموذجًا أموميًا منحرفًا نشأ في ظلثقافة تعتبر البنت عبئًا يجب التخلص منه.

وتُكمل البطلة في موضع آخر:

«كنتُ أستجدي من أبي نظرة، لكنه كان يعاملني كأنني دخيلة علىبيته. لم أسمع اسمي على لسانه يومًا دون أن يكون مسبوقًا بنفور».

هكذا يتأسس داخل الرواية وعي مبكر بأن الطفلة ليست مرغوبًا فيها،وأنّ المجتمع يبدأ قمعه من البيت.

الرواية تفضح القواعد الاجتماعية التي تضع المرأة دومًا في موضعالمتهم، حتى حين تكون ضحية. ففي أحد المواقف، بعد تعرضهالانتهاك جسدي، تقول البطلة:

«قالوا لي: تستحقين ما حدث، من طلب الحرية يتحمل الثمن. لميسألني أحد: ماذا جرى؟ أو من الجاني؟ بل حاكموني قبل أن أعرفكيف أدافع عن نفسي».

هذا المشهد يتجاوز كونه اعترافًا شخصيًا، إلى كونه شهادة على ثقافةتلوم الضحية وتبرئ المعتدي، ما يجعل من المجتمع سلطة رمزية تضغطدون أن تتلطخ يداها مباشرة.

تحضر في الرواية مؤسسات الدولةكالمدرسة، والدار، ومكاتبالرعايةبوصفها كيانات بيروقراطية باردة، تؤدي دورها دون عاطفة،ولا تمنح أي معنى للكرامة أو الرعاية.

تقول البطلة عن دار الأيتام:

«كانوا يطعموننا كالدواب، لا أحد ينظر في عينيك، ولا أحد يسأل لماذاتبكي. كل شيء يمضي كما لو كنا أرقامًا على ورقة، بلا قيمة».

وفي هذا التصوير، يتجلى بوضوح النفي الرمزي للذات من قبلمؤسسات يفترض بها أن تكون مصدر الأمان.

حتى حين تعتقد البطلة أنها وجدت في الحب مهربًا، يتحول الرجل إلىشكل آخر من السيطرة. فتقول، واصفة أحد علاقاتها:

«أرادني أن أكون ظلّه، لا صوت لي ولا رأي. كنتُ مجرد مرآة تعكس لهصورته المتضخمة. لم يحبني، بل أحب شعوره بالسلطة عليّ».

الحب هنا  يضاعف القيد، حين يُعاد إنتاج منطق الهيمنة العائلية فيعلاقة عاطفية.

من أكثر أشكال السلطة حدةً في الرواية، هو سيف الفضيحة المسلطعلى رقاب النساء. تقول البطلة:

«كلما أردتُ أن أصرخ، قالوا لي: اصمتي، لا تفضحي نفسك. وكأنّالصمت شرف، والصراخ عار».

هكذا تتجلى آليات القمع الثقافي التي تجعل من الصمت فريضةاجتماعية، وتمنع الضحايا من الخروج من دوائر الألم.

المحور الخامس: الكتابة كفعل مقاومةمن التدوينالشخصي إلى التوثيق الوجودي

في روايةأدركها النسيان، تبدو الكتابة  وسيلة تعبير أدبي أو تطهيرداخلي من زاوية ، لكنها في زاوية أعمق  ، تصبح فعلًا وجوديًا مقاومًاللنفي، واستعادةً رمزيةً للكينونة. البطلة تكتب  لأنها تواجه خطرالتحول إلى مجرد أثر، إلى هامش في ذاكرة الآخرين، أو إلى رقم فيملفات مغلقة.

تقول البطلة في موضع شديد الدلالة:

«حين أمسكتُ القلم لأول مرة، شعرت أنني أتنفس. لم أكن أكتب، كنتُأعيش من جديد».

هذا الاعتراف يضع الكتابة في مرتبة الأوكسجين، فهي  ضرورةبيولوجية تقريبًا، شرط للبقاء.

وتقول أيضًا:

«كلما كتبتُ، استعدتُ جزءًا من نفسي. كنتُ أرتب الفوضى التي فيرأسي، وأضع للوجع أسماء، وأجعل للماضي نهاية».

الكتابة هنا عملية ترميم نفسي وعقلي، تُحيل الألم إلى معرفة،والفوضى إلى بناء سردي ذي معنى.

في مجتمعٍ يُحبس فيه الصوت، وتُمنع فيه المرأة من البوح، تصبحالكتابة مواجهة رمزية للمنظومة بأكملها. ولهذا تقول البطلة:

«كنتُ أخاف أن أموت صامتة، ألا يعرف أحد أنني تألمتُ يومًا، أننيحُرمت من أشياء كثيرة. الكتابة كانت وسيلتي لأقول: أنا هنا، مررتُمن هذا الطريق».

إنه إعلان وجودي، مقاومة ضد الاختفاء، وتثبيت للحضور الفردي فيوجه ثقافة تنكر الفرد وتُقدس الجماعة.

الرواية ، توثق تجربة أنثوية فريدة، كما أنها تُمارس ما يمكن تسميتهبـالتحريض الناعم، حيث تُقدّم النموذج لا بوصفه استثناءً، بل جزءًا مننمط متكرر في الواقع. بطلتها  تشبه نساء كثيرات صمتن. الكتابة إذًاتحرّك الأسئلة في ذهن القارئ:

كم امرأة مثل هذه عاشت وماتت دون أن تقول كلمتها؟

وكم مرة خذل المجتمع ضحاياه ثم صمّ أذنيه عن الصراخ؟

وهكذا، فإن الرواية، وإن بدت صوتًا فرديًا، إلا أنها تُراكم ذاكرة جمعيةأنثوية، وتُؤسس لوعي نقدي اجتماعي عبر السرد.

خاتمة:

  في ظني أنأدركها النسيانشهادة مكتوبة على قسوة الواقع حينيصطدم بجسدٍ هشّ وقلبٍ وحيد. استطاعت سناء الشعلان أن تُنطقالألم دون صراخ، وأن تُعري القهر دون ادعاء بطولي، فجاء نصهامشبعًا بالشجن، محكمًا في بنائه، صادقًا في بوحه، حادًّا في نقده.

   تنقلت الرواية بين الأزمنة كأنها تعبر خرائط الوجع، وبنت شخصيتهاالنسوية على رماد الخذلان، لكنها لم تسقط في هاوية الاستسلام، بلاستعادت ذاتها بالكلمات. وفي استخدام اللغة، نجحت شعلان فيصنع سرد شعريّ النَفَس، عميق المعنى، تتجاور فيه الهمسات معالصرخات المكتومة.

 إنها رواية تُكتب من الداخل، تقف على تخوم السيرة والتخييل،وتستدعي القارئ لا ليتعاطف فحسب، الرواية تحرض القارئ ليفكر،ليسأل، وربما ليغيّر.

أدركها النسيانعمل أدبي يظل في الذهن كوشم، لا يُمحى بسهولة.

اترك تعليقاً

إغلاق