ثقافه وفكر حر

الشاعر الشعبي الفلسطيني يوسف ابو ليل وابنه الفنان الدكتور صالح ابو ليل

الشاعر الشعبي الفلسطيني يوسف أبو ليل، وابنه الفنان الدكتور صالح أبو ليل.
للفن الاصيل قيمة كبرى في أصالة الشعب الفلسطيني حيث يعد من أعمدة وفلكلور هذا الشعب وتراثه، فمن ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل. من أعمدة هذا الفن والتراث الشاعر الفلسطيني يوسف ابو ليل وابنه الدكتور صالح أبو ليل، حيث يعدان من أعلام الشعر العامي المحكي والحداء والزجل الشعبي، ووصل صوتهما إلى كل بلد وقرية عربية….
الدكتور صالح ابو ليل يتحدث عن سيرة حياته وحياة والده الشاعر يوسف ابو ليل :
ولد والدي الشاعر يوسف أبو ليل في عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين ميلادي، لأسرة فقيرة الحال، لأب ضرير لم ير ابنه بعد ولادته، لأنه كان قد أصيب بالعمى… صالح أبو ليل، جدّي، رحمه الله، لا زلت أتذكّره ينتشي عندما يتحسّس شعري ويداعبني طفلا ليشعر بالسّعادة القصوى التي قد تعوّضه عن فقدان رؤية الابن العزيز. حمل والدي مسؤولية هذا الفقدان مع أخيه الأكبر بعد استشهاد اثنين من إخوته، الأول استشهد في طريقه للحصول على سلاح كان الثوار سيستخدمونه في حربهم ضدّ الانكليز، والثاني استشهد مع المقاومين الفلسطينيين قرب قرية “ميسر”.
قرية كفرقرع، المكان الذي ولد فيه أبي، قرية صمدت في وجه الاحتلال، وذلك بفضل حماتها من أبطال الجيش العراقي يؤازرهم المناضلون الفلسطينيون. وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، اشتعلت المعركة في بلدتي، ودامت ست عشرة ساعة متواصلة، مُني فيها العدو بهزيمة نكراء، رغم استشهاد عشرة مقاومين من بلدة كفرقرع. البلدة التي استعصت على الاحتلال، ثم هُجّر أهلها الى عرعرة ثم الى قفين، حيث اعتبرها الجيش العراقي خطا أماميا للدفاع عن قرى أخرى. ولجأ يوسف أبو ليل الطفل الى قرية قفين، وأقام فيها مع عائلته أحد عشر شهرا حتى تسليم المثلث لإسرائيل بعد اتفاقية رودس. وهكذا عاد والدي الى قريته وعاد أهل القرية ليجدوا أنفسهم تحت رقابة الحكم العسكري الإسرائيلي. وتحّمل الشاعر وطأة التشريد والمعاناة، وجرّب العمل بدون رخصة في مستعمرة “المراح”، حيث صار البوليس الاسرائيلي يطارده ويطارد أمثاله. وهكذا قال الشاعر أولى قصائده في عرس شعبي في البلدة معدّدا حسرات العامل المطارد:
مسكين مش مرتاح- يا شغيل المراح- دوم البوليس يربط- يشهر عليك سلاح
ما ذقت من هرباته- ولا شفت حسراته- لما رمى خبزاته- وروح يرمح ارماح
يفكر في طريقة- ويدعي على هالضيقة- يتمدّد ع العليقة- يتأمل بالنجاح
****
وقد اشتهرت القصيدة وصار يغنيها وأمثالها في مناسبات شعبيه في القرية، وأخذ يؤلّف القصائد الشفوية في هجاء رجال مكتب العمل الصهيوني، ثم حصل على تصريح عمل في كركور، حيث غنّى مجسدا تجربته الحكائية الجديدة، التي مطلعها :
الله ع شغل كركور- وجور العبد عليي
أول يوم أجا ع الدار- قال ما في عنا ازحار
أسأله عن الإيجار ثلاث ليرات اليومية
أول يوم أطعمني لقمة- ما فكري وراها نقمة
وبالتالي مسحلي زقمي- في طبخة ملوخية
ثاني يوم رحت فرحان- بفكر انو مش نسيان
ثنى بكيلو بيذنجان- راحت نفسي مرضية
العلقة بثالث يوم- من الساعة ستة قال لي قوم
زعق عراسي طير البوم- وحلق على عينيي…
أصبح والدي مشهورا جدا، فقد أراد أن يثبت نفسه، وأراد أن يجد متنفسا لمعاناته ومعاناة الآخرين.
كنت في الثامنة من عمري، شاهدا على ذاك العصر، بل جزأ لا يتجزأ منه. أسمع حكايات النكبة ومآسيها الحزينة طورا من أمي، رحمها الله، وطورا من أبي. وكم كنت أسمع عن الحفلة التي أقامها لي والدي عند ولادتي، فامتلأ البيت بالضيوف والمعارف وقادتهم العتابا والشروقي لاطلاق النار، مما تسبّب لحفر صغيرة في سقف مدخل بيتنا القديم. كان له عشّاق مولعون من بلدات كثيرة، وكنا أنا وإخوتي الصغار، نغتنمُ الفرص لنجلس معه ونستمتع بحديثه والأنس معه. غير أنني كنت الأقرب إليه، كنت أرافقه لكلّ مكان، وأتعلّم منه فنون الأغنية الشعبية واستمع لمحاوراته مع الحدائين، حتى كبرت فشاركته في الأعراس. كان جدا يحبّ مني هذه المشاركة، رغم أنني كنت أميل إلى التجديد وأنفر من كثرة المديح الذي كان لا بدّ عنه في حفلاتنا الشعبيّة. ورغم أن والدي أرادني ان أكون شريكه في الحداء، لم يرفض أفكاري، بوجوب تحديث التراث وغنائه مع الآلات الموسيقية بقوالب جديدة. وفي أواخر الثمانينات قمت بتأليف فرقة موسيقية تهتم بالتراث الفلسطيني، سمّوها أصدقائي العازفون “براعم الربيع”، وأقنعته بمرافقتي الى قطاع غزة حيث كان عملي الأكبر هناك في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. وقد أحيينا هناك سويّة عشرات الأعراس الشعبية والمهرجانات والحفلات المختلفة وسجلنا كثيرا من التسجيلات التراثية المنتشرة.
لقد استطعتُ صقلَ مواهبي والتغني بالحداءِ والزَّجَل الشعبي منذ كنتُ طالبًا في المدرسة الابتدائية وذلك بتشجيع ٍ من أبناءِ صَفيِّ وأصدقائي. كنت مُغرَمًا بالأغاني الشعبيةِ، خاصة ً تلك التي لوالدي. وحتى لو كنتُ أرفضُ الغناءَ آنذاك لم يكن ليُصَدِّقني أحدٌ وذلك لأنني ابنٌ لشاعر ٍ شعبيٍّ معروفٍ هو ” يوسف صالح أبو ليل “. كنتُ استغلُّ المناسبات المختلفة كي يكون لي دورٌ فني فيها، ومع مرور الوقتِ أصبحتُ حاضرا في سهرات حناء كثيرة في بلدي. كنتُ كوالدي أحبُّ ادخالَ السعادةِ إلى قلوبِ الآخرين وأفرحُ لفرحِهم معي وأحبُّ شعرَ والدي الشعبي الذي يصوِّرُ به آلامَ العمّال ِالكادحين من أ بناءِ شعبنا الحبيب أثناء نكبة 48، مثل شعره الذي يتغنى به للوطن وأبطالهِ الأفذاذ (اللون الذي يُدعى “المثمن”):
بلادي فيها الخير كثير مجبوله بدم الأبطال
فيها وعيت وصرت كبير فيها تغذيت الموال
لو أعطوني قناطير ذهب مهزوز بغربال
ما أنسى أرضي مهما يصير لو ملوا حرجي ذهبان
أنهيتُ مرحلة َالدراسةِ الثانوية بنجاح، لكنني لم أكن قادرا على تركَ الفنَّ بسهولةٍ فانجرفتُ مع الناس ومع الأصدقاء والمعجبين من كلا الطرفين، طرفي وطرف والدي، فكانت بمثابةِ القفزةِ الأولى لي في عالم الاغنية الشعبية والتراث. وجنبا إلى جنب، سرى حبّ الفن والأدب العربي، كليهما، في نفسي، لذا وخلال عملي الفني وتعليمي حصلت على اللقبِ الأول B.A في الأدبِ العربي وعلم الآثار والحضارات الشرق أوسطية من جامعةِ تل أبيب، وعلى شهادة الماجستير M.A في اللغةِ والأدبِ العربي من نفس الجامعة، وعلى الدكتوراه (P.h.d) في العلوم الانسانية واللغات، اللغة والأدب العربي، شهادة ورخصة تدريس من جامعة بن جوريون في النقب. ثم مؤخرا، على البوست دكتورة في الفلكلور والفن الشعبي.
كان أبي أوَّلَ من شجَّعني في بدايةِ طريقي الفني والأدبي، ثم أصدقائي وكلّ من سمعني في الاحتفالاتِ والمناسباتِ المدرسيَّةِ. أذكرُ أنني كنت أرافقهُ صغيرًا في الأعراس التي كان يظهرُ فيها بالمثلث والجليل. شاركتُ معهُ في الحدَاءِ في عدَّةِ قرى مثل: عرب الهيب، جسر الزرقاء، كفار هحورش، طوبا، كفر ياسيف، وغيرها من القرى العربية. في أحدِ المّرات، حدثت بلبلة ٌ في حجوزاتِ التواريخ، فاضطرني لإحيَاءٍ زفةٍ ناجحةٍ في “باقةِ الغربية”، ثم بعدها اصطحبني في الأعراس. كنتُ أرافقهُ الى قريةِ طمرة وعكا ويافا للاشتراكِ معه في المهرجاناتِ والغناء أثناء وصلاتِ الدبكة الشعبيّة التي كان هو بنفسه يدرّبُ لها مجموعات من الشبيبةِ العربية ثم فرق مختلطة، يهودًا وعربًا. اشتركتُ مع والدي في عدّةِ حلقات تلفزيونية، أغني معه جنبًا الى جنب في برامج خاصَّة عن الزجل الشعبي وعن شهر رمضان وعيد الاضحى المبارك وعيد النبي شعيب وغيرها من المناسبات.
في الثمانينيَّات كانت هنالك مناطق، ليس المثلث أو الجليل، لم تكن مُغرمة ً كثيرًا بالحدائين. فمثلا قطاع غزه الذي كنتُ أحيي به مئات من الأعراس لم يكن شغوفا ًبحبِّ الحدائين. كنت اضطرُّ لاستئجار ِغرفٍ للعازفين في فنادق جنب شاطيء البحر في غزة كي لا أسافر يوميًّا من الجنوبِ الى الشمال لكثرةِ عمل ِالفرق الموسيقية هناك في ذاك الحين. يقال، ومن صالحي، انني أشهرتُ والدي في قطاع غزه عندما نجحتُ واقتنعَ في لوني الغنائي وأحبَّهَ فرافقني عدّة َ مرَّاتٍ مع فرقتي إلى هناك في حفلاتٍ طلبَهُ الجمهورُ فيها أن يكون معي. كان يصلني إلى البيت وفود كثيرة، لا تحصى، من القطاع تريدُ حجزَ تواريخ حتى بكلّ ثمن. وفي عام 1988 حدثت نقلة ٌ نوعيَّة ٌ في تفكير والدي ووافق على الإشتراكِ معي في أحدِ التسجيلاتِ التي بيع منها عشرات آلاف النسخ في الداخل وفي الخارج ألا وهو تسجيل “هدية العيد” المشهور. كلّه كان من توزيعي الموسيقي ومن كلمات والدي. كانت عليَّ ضغوطات أيضا بتركِ هذا المسار، بحجة أنَّ اللآلات الموسيقية مُحَرَّمَة ٌ أو شبه مُحَرَّمَة. أذكر أيضًا أنَّ عددًا من الشُّعَّارِ الحدّائين قد زاروني لإقناعي بأن أعملَ معهم في الحداء ومنهم الشاعر الشعبي الأستاذ ” فواز محاجنة ” الذي أصبحَ بعد وفاةِ الشاعر الشعبي”أبو عدنان “، رحمه الله، زميلا ً لوالدي في الحداء. كانت قناعتي بمساري وأسلوبي عظيمة ً لذا لم أغيِر اتجاهي رغم أنَّ أعراسَ الحدائين آنذاك كانت أكثرَ من الفرق الموسيقيه. اقتنعَ والدي بالتعاون مع لوني، ومثله ومثلي، ينهجُ اليوم غالبية ُ الشعراء الحدائين باصطحابهم آلة الأورج لمجاراةِ العصر.
الفنُّ حسب رأيي هو الابداعُ والخلق بكلِّ أشكاله. فأنتَ عندما تقلد الاخرين لست فنانا ً بل مطربا. الفن هو أن تصوغ العالمَ من حولك برؤيتِكَ الشخصية وُتقدِّمَهُ للجمهور فيرون أنفسَهم به، يدخل إلى نفوسهم، تمامًا كالأدب. أقولها بكلِّ تواضع، كنت أولُ من غنىَّ (الحناء) مع الموسيقى، بمرافقةِ الآلات الموسيقية، كذلك: المحوربة، الشروقي، الجفرة، الزريف، الدلعونة، حلاقة العريس، القرادية، المثمنات وغيرها من الألوان التراثية. أضفت قالبًا جديدًا ونغمًا فولكلوريًّا للكثير من الالحان التراثيةِ الشائعة. تقريبا لي لوني المتميِّزُ بجميع ِالأغاني التي قدّمتها للجمهور في الحفلاتِ، لذلك لدي اكتفاءٌ مِمَّا حققتُ في ذاك المضمار.
كان يوسف أبوليل يؤدّي أشعاره الشعبيّة في الأفراح والأعراس “على طول فلسطين المحتلة وعرضها”، كما أدّى اشعاره من خلال الاذاعة والتلفزيون باللغة العربية في برنامج مشهور عُرف بأسم “من أجوائنا الغنائية”، وفي ذلك البرنامج غنّى الكثير من الأشعار الشعبية مع الشاعر الشعبي المعروف يوسف مجادلة، رحمه الله . ثم شاهد الجمهور العربي يوسف أبوليل ورفاقه على شاشة التلفزيون الأردني حين سافر مع وفد من عرب الداخل الفلسطيني -48 لتعزية الملك حسين بوفاة زوجته. وشارك أيضا في فرق شعبية فلسطينيّة أدّت الكثير من العروض في العالم. يقول الباحث في الأدب الشعبي شكري سرحان:”لقد ساهما يوسف وصالح أبو ليل في إرساء وتطوّر الشعر الشعبي العامي في بلادنا. ويعدّان من أعلام الشعر العامي المحكي والحداء والفن الشعبي. عرفتهما الاوساط الجماهيرية من خلال الأعراس والأفراح، ولم تبق قرية او بلدة عربية الا وغنّيا على بيادرها وفي ساحاتها وشوارعها وأحيائها، وكان لهما شعبية واسعة، والجيل القديم يذكر أبو ليل الأب جيداً كيف كان يحمل الميكروفون ويحجل كالقطا بين صف السحجة ليطرب الحاضرين”.
والدي كان يمتلكُ روحَ فنان لذلك فأنا وهو متشابهان في هذه الميزة، إذ كنا ننسجم فنيًّا وأدبيًّا الى أبعد الحدود. امنيتي التي لم تتحقق حتى الأن هي تكريم والدي وتجميع ديوان شعري زجلي لهُ، تكونُ لمَساتي ظاهرة ً بهِ رغبة مني في إرضاء جمهورهِ الذي يصبُو إلى ذلك منذ أمَدٍ. لقد منحَني، مشكورًا، الحقَّ في تجميع ِ شعرهِ من الأشرطةِ ومن الكتاباتِ الكثيرةِ التي استطعت تجميعَها، غير أنَّ هنالك مادة كثيرة لهُ تحتاجُ الى جهد كبير للملمتِها وتنقيحها وتبويبها بالشكل ِالصحيح. لي ولوالدي الكثير من الاغاني والأهازيج الشعبيَّة المشتركة التي أعتز بها وتثيرُ أحاسيسي وعواطفي كلما سمعتها وكلما خطرت في بالي.
كان أبو ليل الشاعر بحاجة الى التجاوب الشعبي العميق حتى يفيّض نبع قريحته فتتدفق الكلمات على لسانه في انسجام ما بين المعنى البسيط واللغة المحكية والموسيقى الناعمة، فيهز الجمهور طرباً، ويملأ سماء القرى بالنشوة والفرح الغامر وحبّ الحياة. غنّى والدي للناس، للوطن، للحرية، للعامل، وللفلاح والسهل والجبل والوادي والجليل والمثلث والكرمل والخطّاف ولأبناء الحارة، وحيّا شعبنا ودعاه للتمسّك بالقيم الاجتماعية العليا، كالجود والشهامة والعصاميّة والتسامح وحبّ الخير والنخوة. اشتهر أبو ليل بالأغاني الفولكلورية وبالقصص والحكايات الشعبية كقصة وضفى، وقصة نوف الملحميّة، التي تروي قصة غرام فيها ألم وحرقة الشوق والتضحية والفروسية، التي يقول مطلعها:
يقول محمد الملحم قصيدي بيوت مسطّرة جوّى لكتابي
أريد أشرح على ما صار بيي– أمور الدهر تورينا العجابي
هذا هو جزء مختصر من سيرة ذاتية لوالدي ولي، قمت بتدوينه في مقدمة ديوان لأشعار والدي. أحمد الله على أنني كنت منذ طفولتي اجتهد على تدوين أشعاره الشفويّة بل وكنت أضطره لكتابة مقدّمة هذا الديوان واستفسر منه عن كلّ ما يتعلق بأشعاره من ألوان الشعر الشعبي ورموزه وقوالبه المتعدّدة. اتمنى أن يقدرني الله اتمام مشروع الديوان كي أصدره ديوانا تستفيد منه الأجيال المقبلة.
نقلاً عن شخصيات مؤثرة من بلدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق