مقالات

من زمن آخر .. رياض الصالح

نظر بتخوفٍ و قلق.. من النافذة المطلة إلى الخارج .. كانت الجبال التي عزم يوماً على صعودها تتراءى له في الأفق .. لكنه كان ينظر كمن يستعد لاستقبال خبر مفجع .. فها هو البرق يلمع في السماء.. ليتبعه الرعد القاصف .. لا يدري لماذا لوقع هذا الصوت الأجش زلزلة تبعثر مدن سكينته النفسية .. و تعيث الخراب في أعماقه التي كلفته الكثير ليعيد ترميمها منذ الشتاء الماضي ..
إنه لا يرغب بفضح دقائق رأيه عن الشتاء.. فهو لا يحب أن يلفت انتباه المخالفين لرأيه من أولئك الرومانسيين الذين يعشقون المطر .. فهو يعد نفسه من فئة العاطفيين الحساسين للغاية .. فلماذا يكره بهجة السماء .. عندما تتقاطر أسراب غيثها نحو عطاشى الأرض .. و لماذا يختفي إحساس الدفء الذي يخطر على بال العشاق لحظة الهطول .. و أين عينه البصيرة .. و هي تشاهد فرحة التراب و الأشجار و الشوارع و حتى الأرصفة بنكهة المطر و لمسة الحياة عندما تدب في جسد الجفاف الميت ..
ترى .. لماذا يترك روحه فريسة تمزقها اكتئابات المواسم .. و تكسرها التقلبات المزاجية .. و هو الذي تعود على تسلق الجبال .. و اقتفاء الأثر .. و اقتناص الفرص .. و تعلم الوثب على ظهر القدر الجامح خلال جريه و هو يسابق أعتى العواصف ..
في أعماقه المجهولة دعوة صارخة متزايدة .. تسحبه نحو الراحة و السكون .. و كأنها تحنو عليه من آلام يتبناها عقله دائماً بل يسعى إليها .. تلك الدعوة تطالبه بإطفاء الشمعة التي يحافظ على اشتعالها تحت أصابع قدمه .. و تلِحُّ عليه لينزع ثوبه الخشن و الذي يقض مضجعه .. تطلب تفسيراً لرغبته الغريبة .. في الحفاظ على مقدار محسوب من الألم .. يعكر عليه سكون الارتياح ..
إنها لا تعلم أن صاحبنا يتبنى مبدأ الحركة المستديمة .. تلك الحركة التي تحافظ على منابع نهر الحياةِ لديه .. هي التي تغذي دفقاته المستمرة .. و جريانه الذي لا ينقطع .. و إلا سيتحول إلى ماءٍ آسنٍ تنبعث منه الروائح الكريهة و ينمو فيه العفن .. فوجود تلك المنغصات .. ملائم لطبيعته التي تؤول نحو اعتزال العالم المتحرك ..
هي لا تعلم .. أنه قد أصبح قصاص أثر ينتبه إلى التفاصيل التي يكمن فيها ذلك الوعي الضائع في لجة الازدحام الشديد .. لا تعلم أن صاحبنا لا يؤمن بمكاسب الصدف و عطاءات الحظوظ .. فكلها تخلو من متعة الاستحقاق .. و لذة البرودة التي تصاحب يقين العَرَق .. بحتمية الوصول ..
فليست الراحة مطلبه .. بل أنها في قاموسه تُعَرَّف بأنها مجرد حالةٍ مخادعةٍ و تنميقٌ دبلوماسيٌّ مخادع .. للكسل .. لكنها متعنتة صارمة .. ترسل عيونها بين فترة و أخرى .. تبعث سراياها لتخلق حالة استنفارٍ ضاغط .. يجبره على النوم .. و لو على شكل إغماءه ..
ثم ها هو الخريف المؤذن بشتاء جديد .. يا لحسرة صاحبنا من ذلك الصراع الدائر بين معسكره الواعي و بين ملاجئه اللاواعية .. يقف على نافذته الروحية .. مستغرباً هذا الاقتتال الداخلي الموجع .. و الحرب الأهلية التي تستنزف منه موارده الذاتية .. و تشيح ببصره عن وجهته الحقيقية و آفاق القمم التي يبصرها بعين خيالاته الزرقاء ..
إنه ثائرٌ .. في وقت أعلن وجهته بإنهاء الصراع .. و سحب القوات .. و تقبل الواقع .. مقاوم في زمنٍ يفرط في كرامته من أجل التخلص من الضوضاء .. سابحٌ في بحر الغرق .. شامخ رغم الجبال المنسوفة .. لعله من زمن آخر .. أو نيزك من نجمٍ متمرد على الكواكب ..
أزاح بصره عن النافذة .. تلمّس خشونة ثيابه .. تبسم سراً و جهرا .. ثم انثنى نحو شمعته القابعة تحت قدمه .. يطمئن على اشتعالها .. و يلتمس منها دفئاً ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق