
نَجْمَةٌ بِالسَّمَاءِ العَالِيَةِ، حَلَّقَتْ تَحْمِلُ ذِكْرَيَاتِهَا، فَلَكُلِّ ذِكْرَى نَقْشٌ مَحْفُورٌ فِي أَعْمَاقِهَا، وَصُوَرٌ خَبَأتها بَيْنَ نَبَضَاتِ قَلْبِهَا وَلمعانِ عَيْنَيْهَا. تَمْتَلِكُ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ مَا يَكْفِي لِيَثْقُلَ قَلْبَهَا، لَكِنَّهَا لَا تَمْلِكُ حَقَّ اخْتِيَارِ مَا تَتَذكرهُ.
فَـالذِّكْرَيَاتُ تَأْتِي مَتَى شَاءَتْ، تَفرِضُ حُضُورَهَا دُونَ إِذْنٍ. فَالذِّكْرَيَاتُ أَخَذَتْهَا إِلَى سُهُول ومروجِ بلادها وأوطانها، لتَستمْتع بمناظر الطبيعة الخلّابة، وَتَسْتَنْشِقُ رَحِيقَ أَزْهَارِهَا. كَانَتْ أَلْوَانُ الرَّبِيعِ تَتناثرُ في كل زاويةٍ، بَيْنَمَا النَّحْلُ يَتَنَقَّلُ بخفةٍ بَيْنَ الأَزْهَارِ، يَمْتَصُّ رَحِيقَهَا، كَأَنَّهُ يَعْزِفُ لَحْنًا صَامِتًا مِنَ الحَيَاةِ.، لَكِنَّ الحَنِينَ وَالشَّوْقَ أَخَذَاهَا إِلَى السَّاحَةِ القَلْبِيَّةِ، حَيْثُ الذِّكْرَيَاتُ وَعِبْقُ المَاضِي، للأُمِّ الفلسطينية.
اِشْتَاقَتْ لِحَوْضِ الوَرْدِ عَلَى لِحَافِ البقجة، ذَاكَ اللِّحَافُ المَطْبُوعُ بِأَلْوَانِه الزاهية، وَالأُمُّ بيدها الخَيْط وَالإِبْرَةَ، وَتَقوم بخياطة لِحَافِ البقجة، بَيْنَ كُلِّ مُرَبَّعٍ وَمُرَبَّعٍ، تُحيَّك غرزة على هيئة نجمة، ولكلِّ نجمة حكاية منها الحلو ومنها المُرّ، والخيوط تُشكّل نجمات صغيرة أو عقدًا مُزخرفة وهذه الطريقة معروفة بشدّ اللُّحُف، وَالأُمُّ تَكُونُ جَالِسَةً عَلَى الحَصِيرَةِ مُرتدية ً الثوب الأبيض والحطة البيضاء، مشغولةٌ بتحضير القماش والصوف، وتصنعُ كلِّ لحافٍ بعناية وتقوم بطيّهِ بعد إتمامه ثم تضعُهُ في زاوية مخصصة تُعرف بحامل الفراش، هذا الحامل إما أنْ يكونَ مبنيًّا من الباطون أو مصنوعًا من الخشب.
لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْهُ بَيْتٌ قُرَوِيٌّ، طرّاحة مفروشة بعناية، يَغْطِيهَا قِطْعَةُ قُمَاشٍ مُطرّزة يدويًا، شرشفٌ مشغولٌ بالصبرِ والحُبّ.
تَحَوَّلَتْ تِلْكَ البُقجة مَعَ الحَرَامَاتِ المُخمليّة الملوّنة التي كانَتْ يَومًا رمزًا للدفء والحنين، إِلَى مَشَاهِدَ لِتَغطية الشهيد.
كَانَتِ البُقجة يَوْمًا عُنْوَانَ العَوْدَةِ، يُطوى فِيهَا الشَّوْقُ، وَتُرتّب الذِّكْرَيَاتُ، بَيْنَ طَيَّاتِ الحَرَامَاتِ، حَمَلَتْهَا الأُمَّهَاتُ بيدٍ ترجُفْ من الأنظار وفتحَتْهَا لِلْعَائِدِين، كَأَنَّهُمْ يَفْتَحونَ حضْنَ الوَطَنِ.
أَمَّا اليَوْمَ فَقَدْ تَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ، أصبحتْ البُقجة شاهدًا على الرحيل تُحزم على العَرَبَة وتُشَدُّ خيوطها بوجَعٍ، تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ تُفرشُ تَحْتَ دِفْءِ السَّهَراتِ العائليَّة، باتتْ تُغطي وَجَعَ الوَدَاعِ فِي مُخَيَّمَاتِ النُّزُوحِ، تَحَوَّلَ رَمْزُ الدِّفْءِ وَالحَنَانِ إلى مرآةٍ لِلْحُزْنِ، وَصَارَ اللَّوْنُ لَا يُبْعِثُ الفَرَحَ، بَلْ يُثِيرُ الشُّجن، ويُلف المَوْتِ حَوْلَهُمْ.
بِبَسَاطَةِ البُقجة والحرامات صَارَتْ أَكْفَانًا مُؤَقَّتَةً، لَا تَلِيقُ بِكَرَامَةِ الحَيَاةِ، وَلَا بِحُرْمَةِ المَوْتِ، كَأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الحَيَاةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
مَشْهَدٌ تُقشعر لَهُ الأَبْدَانُ، أَصْبَحَت رَمْزًا لِلأَلَمِ، وَالكَرَامَةِ، وَالشهادة، وَأَحْيَانًا الفَقْرِ.
صَوْتُ الصَّمْتُ فيهِ أَعْلَى مِنَ الصُّرَاخِ كَانَتِ الْأُمُّ تَسْعَى بِكُلِّ جُهْدِهَا لِتُحَاكَ الْبُقْجَةَ، كُلُّ خَيْطٍ يَتَنَاثَرُ بَيْنَ يَدَيْهَا يَنْبُضُ بِحُبٍّ لَا يُقَاسُ. كَانَتْ تُطَرِّزُهَا بِأَمَلٍ وَحُبٍّ، وَبِأَحْلَامٍ لَمْ تَنْطَفِئْ، أَمَّا الْآنَ فَعَاشَتِ التَّضْحِيَةَ وَصُمُودَهَا، وَتَحِيكُ الْبُقْجَةَ بِرُمُوشِ عَيْنَيْهَا، وَرِمَالُ الْوَطَنِ طُرَّاحَتُهَا. إِنَّهَا تَعْمَلُ فِي ظُرُوفٍ صَعْبَةٍ وَمَلِيئَةٍ بِالتَّحَدِّيَاتِ، لِضَمَانِ أَطْفَالِهَا وَاسْتِقْرَارِهِمْ، وَقَادِرَةٌ عَلَى جَعْلِ الْإِبْرَةِ وَالْخَيْطِ تَنْسُجُ الرِّمَالَ بِرُمُوشِ عَيْنَيْهَا لِحِيَاكَةِ الْمُسْتَقْبَلِ بِأَيٍدٍ مَفْعَمَةٍ، لَكِنْ رَغْمَ الْمُعَانَاةِ لَمْ تَفْقِدِ الْأَمَلَ، سَتَظَلُّ تُشْرِقُ شَمْسُهَا كَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ بَعْدَ الْعَاصِفَةِ، وَيَدَاهَا تَتَشَبَّثُ بِالْحُلْمِ، بِأَمَلِ غَدٍ أَفْضَلَ. وَفِي كُلِّ خَيْطٍ تُمْسِكُهُ، سَتُرْوَى قِصَصٌ جَدِيدَةٌ
بقلم ازدهار عبد الحليم

