مقالات

التحول في الخطاب السياسي الفلسطيني من الكفاح المسلح الى البراغماتية السياسية

بقلم البروفيسور مانويل حساسيان، سفير فلسطين لدى مملكة الدنمارك

“الديمقراطيات لا تحارب بعضها البعض أبدا” – فرانسيس فوكوياما

أذا ما أردنا تحليل وفهم الظروف الموضوعية التي أدت الى التحول الكبير في الفكر والخطاب السياسي الفلسطيني المعاصر، علينا محاولة تسجيل تسلسل خطى هذه الظروف الموضوعية زمنياً من خلال تتبع التحول الدراماتيكي للفكر والخطاب السياسي الفلسطيني، علما أن هذه العملية ليست بالبسيطة بل تعد معقدة الى حداً ما، لأن هذه الظروف والمعطيات تعد غير تقليدية بالنسبة للمحللين والمفكريين السياسيين، رغم ذلك لا يمكننا التغاضي عن هذه الظروف التي دفعت الفلسطينيين إلى احداث تغييرات جذرية عميقة على خطابهم السياسي المحلي والدولي وابتكارهم تقييم جديد للواقع الجيوسياسي، وذلك من أجل التكيف مع الظروف الطارئة للتوافق مع متغيرات النظام العالمي اقليمياً ودولياَ، بحيث أن معظم الثورات تمر بتحولات وتغييرات ديناميكية متناسبة مع النهج العملي لتتلائم مع السياسات المحلية والإقليمية المتغيرة من أجل الوصول لخطاب سياسي يكون مستساغًا ومتزامنًاً بشكل أفضل مع التطورات المحلية والاقليمية، وذلك من خلال تطويرالنهج الديالكتيكي (Dialectical ) وفقًا لذلك.

لذلك كانت نشأة منظمة التحرير الفلسطينية ضرورة تاريخية مهمة من أجل تثبيت الحقوق الوطنية للفلسطينيين، والتخفيف من الحالة المأساوية والمعاناة التي ألمت بهم نتيجة ( النكبة ) تهجيرهم القسري من أراض فلسطين التاريخية بعد الاحتلال الاسرائيلي في العام 1948، يعزى ذلك الى فشل وانحدارانظمة الدول العربية نحو الانسلاخات والتشرذمات السياسية خلال تلك الحقبة الزمنية، وأفتقار هذه الانظمة للشرعية والمصداقية المطلوبة، بسبب سياسة الهيمنة المتبعة وافتقارها إلى العملية الديمقراطية لتداول السلطات ضمن سيادة القانون، مما اضعفها و افقدها شرعيتها اقليمياً ودوليا،. حيث أتت هذه الأنظمة الى دفة الحكم من خلال الانقلابات وليس من خلال عملية انتخابية ديمقراطية تتصف بالنزاهة والشرعية .

استطاع الفلسطينيون في المهجر والمنتهكة حقوقهم في مختلف دول العالم، للتعامل بواقعية مع الظروف المصيرية الجديدة المعقدة والبائسة التي فُرضت عليهم نتيجة تهجيرهم القسري من قبل ألاحتلال الاسرائيلي، واستطاعوا أن يفرضوا نفسهم كقضية سياسية مركزية أقليمياً ودولياً يحسب لها حساب، بعد توافق الحركات والفصائل الفلسطينية الوطنية وذلك من أجل إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني سواء في الشتات أو في الداخل المحتل على حد سواء، حيث تلقت منظمة التحرير الفلسطينية الدعم المطلوب من قبل الزعيم المصري جمال عبدالناصر في ذلك الوقت، لتصبح القضية الفلسطينية منفصلة عن البنية التحتية العسكرية المصرية بعد حرب 1967.

هذه القيادة التي مهدت الطريق للوصول نحو الحرية والاستقلال، توجت بأنشاء بنية تحتية شاملة تعنى بقضايا ومتطلبات المجتمع المدني الفلسطيني بشكل موازي للعمل النضالي داخلياً وخارجياً، بتمويل من رؤوس أموال الفلسطينيين ألاغنياء وبعض الدول العربية والمنظمات الدولية، حيث مهد ذلك الى استدامة التنمية الاقتصادية لهذه البنية التحتية الشاملة، مما مكن منطمة التحرير الفلسطينية رغم كل الظروف الصعبة والعراقيل المستجدة بأن تستقل في قرارها السياسي، ونجحت في اقامة ديمقراطية وليدة كلاعب غير حكومي ( NON – STATE ACTOR ) في السياسة العالمية، خصوصاً بعد العام 1974، عندما تم قبول منظمة التحرير الفلسطينية لتكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني داخل الامم المتحدة في جنيف- سويسرا، واعتبارها حركة شرعية تمثل صوت الشعب الفلسطيني وجهة فاعلة غير حكومية نشطة دولياً، مما مكنها من أقامة علاقات دبلوماسية ترجمت بافتتاح بعثات دبلوماسية لدى العديد من دول العالم.

وتجدر الإشارة إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية بدأت في إعادة النظر في برنامجها السياسي من التحرير الكامل لاراضي فلسطين التاريخية إلى القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وتم ذلك الطرح من قبل أحد الفصائل الرائدة في منظمة التحرير، وهي حركة التحرير الوطني الفلسطيني ( فتح ).

كان طريق منظمة التحرير الفلسطينية شاقاً للغاية، وغير معبدة ولذلك مرت بالعديد من التحديات الكبيرة من أجل اقناع الشارع الفلسطيني والمجتمع الدولي بالاعتراف بهذا التغيير التاريخي في خطابها وبرنامجها السياسي الجديد، بالطبع استند هذا التغيير الى مساندة قرارات الأمم المتحدة المواتية وذات الصلة، بذلك تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من تأسيس طلبها القانوني لدى المجتمع الدولي بأعتبار قضية فلسطين قضية دولة شرعية ترزخ تحت الاحتلال الاسرائيلي، بدلاً من “قضية انسانية تعنى باللاجئين” فقط.

بالطبع لم يكن التحول في الخطاب والبرنامج السياسي الجديد لمنطمة التحرير الفلسطينية بالشيء السهل، بل كانت المهمة شاقة وتخللتها تحديات هائلة للوصول الى تحقيق أجماع بين الفصائل الفلسطينية باختلاف توجهاتهم لقبول الخطاب والبرنامج الجديد، ناهيك عن صعوبات الأروقة السياسية الاقليمية والدولية، حيث استغرق الأمر عدة عقود لإقناع الفلسطينيين والعالم العربي وإسرائيل والولايات المتحدة والمجتمع الدولي بأسره بقبول هذا الطرح للواقع المصيري.

بغض النظر عن كل هذه الظروف الصعبة والقاسية، فقد أستطاعت منظمة التحرير الفلسطينية تجاوزها جميعاً، بل وعملت على تحديد نهجها البراغماتي الاستراتيحي الجديد نحو حل الصراع المستمر باقامة الدولة المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية

كان على المجلس الوطني الفلسطيني ( برلمان فلسطينيي المنفى ) أن يمر بعدة مراحل تاريخية، من أجل الوصول إلى حل مناسب ومقبول يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني بالاستقلال والحرية الى أن تم الوصول لاقرار النضال السياسي والمفاوضات كاستراتيجية وطنية لحل هذا الصراع الذي طال أمده.

يمكن تقسيم هذه المراحل التاريخية إلى ثلاث مراحل مهمة:

المرحلة الأولى “التحرير والعودة” (1964-1968) خلال دورتي المجلس الوطني الفلسطيني الثانية والثالثة كان التركيز على التحرير الكامل لفلسطين التاريخية بالاعتماد على الذات مع الكفاح المسلح في نص المادة 9 من الميثاق الوطني لعام 1968.

المرحلة الثانية تميزت هذه المرحلة بتحول دراماتيكي إضافي في الأهداف الفلسطينية، وهي التحرير الكامل لفلسطين التاريخية على أن تكون دولة ديمقراطية علمانية تكفل لجميع مواطنيها العيش في مساواة وعدالة بغض النظر عن أختلاف الدين والعرق أو الجنس.

المرحلة الثالثة بعد تشرين الأول (أكتوبر) 1974، تبلورت هذه المرحلة نتيجة تشكل وقائع ومتغيرات جديدة في منطقة الشرق الأوسط مما دفع منظمة التحرير الفلسطينية إلى اتخاذ خطوات تاريخية، لتكون استراتيجيتها الجديدة للتحرر.

تتكون هذه المراحل من ثلاثة عناصر جوهرية:

(أ) تعبئة وتسييس الشعب الفلسطيني خلف منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين.

(ب) الحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني خلف قيادته خلال الأوقات العصيبة والازمات الطارئة.

(ج) تحقيق برنامج سياسي قائم على التوافقات السياسية ديمقراطياً.

نتيجة لذلك، وخلال المؤتمر الوطني الفلسطيني التاسع عشر الذي عقد في الجزائر العاصمة عام 1988، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على حل الدولتين، وترجم ذلك بإعلان قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران من عام1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

لكن منذ عملية السلام التي بدأت في مدريد في العام 1991 وتوقيع اتفاقية أوسلو للسلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1994، اتصفت بالجمود والتقلبات نتيجة السياسات الاسرائيلية الممنهجة في الاراضي المحتلة، من خلال مصادرة المزيد من الاراضي وبناء المستوطنات وفرض وقائع جديدة على الأرض من قبل الاحتلال الاسرائيلي، مما أدى الى جمود بالمفاوضات والفشل شبه الكامل في عملية السلام نتيجة لذلك.

ما يدعوا للتفائل الحذر، حصول متغيرات جديدة أقليمياً وخصوصاً في السياسات الأمريكية بما يخص منطقة الشرق الاوسط بعد أنتخاب بايدن رئيساً للولايات المتحدة الامريكية، فقد خلقت هذه المتغيرات أرضية جديدة وتوقعات ايجابية ستطراء على عملية السلام في الشرق الأوسط، فمن المتوقع أن يتم كسر الجمود السائد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال دفعهم للعودة للانخراط الجاد وجهاً لوجه للتفاوض وإحياء عملية السلام المجمدة منذ العام 2008 من جديد.

ما زالت فرص حل الصراع ضئيلة، ولكن لا بد من التفاؤل الحذر الذي سيكون بمثابة لبنة سياسية جديدة نحو حل النزاع والوصول للسلام في الشرق الاوسط دون أي التزامات مسبقة.

رغم أن الاعتراف بإسرائيل عربياً مرتبط بمبادرة السلام العربية كما نصت عليه صراحةً في القمة المعلنة التي أقيمت في ( بيروت في العام 2002 )، لا حاجة لتكرار قراراتها التي نصت بوضوح على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بالمقابل التطبيع الكامل معها، علماً أن ما قامت به بعض الدول العربية من تطبيع مع إسرائيل مؤخراَ لا يتوقع منها التراجع عنه في ظل المتغيرات السياسية الطارئة خصوصاً بعد تولي الرئيس بايدن ادارة الولايات المتحدة الامريكية، هذه الدول الخليجية ورغم مخالفتها الصريحة لما نصت عليه المبادرة العربية للسلام و وخروجها عن أجماع القمم العربية السابقة في هذا الخصوص الا أنها ستدفع ثمن علاقتها مع اسرائيل في الوقت القريب.

مما لا شك فيه أنه سيتم من جديد إحياء عملية السلام المتوقفة منذ زمن، حيث أن الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن لديها نهج مغاير عن سابقتها في ما يخص حل الصراع في الشرق الاوسط،، اذ ستعمل على أرساء مفهوم الديمقراطية والامن والاستقرار في المنطقة بأسرها الى حد ما بالتوافق مع المتغيرات الاقليمية، من خلال رؤية وتصور جديد للشرق الاوسط، مما يعطي بعض ألامل لإمكانية حصول دفعة بأتجاه إعادة انخراط طرفي النزاع نحو المفاوضات وبدون شروط مسبقة. ونحن الأن ننتظر خطة بايدن تجاه عملية السلام والتي من المتوقع أن يتم الاعلان عنها قريباً.

أن بزوغ فجر جديد في السياسات العالمية والإقليمية، تعد حتمية وضرورة ملحة، بسبب التحديات العالمية السياسية، اضافةً للتحديات الطبيعية الكارثية الطارئة التي تجاوزت كل الحدود الجغرافية، حيث طغت على العالم مؤخراً تهدد الانسانية جمعاء، من حروب تجارية وصراعات إقليمية خطيرة أضافة لتفشي جائحة كورونا عالمياً والتي بدورها نشرت الفوضى والخوف بين مختلف دول العالم على حد سواء. وذلك ما يتضح جلياً من خلال الاحتجاجات الأخيرة في كل دول العالم، حيث أن البشرية ترغب وتطمح الى عالم أمن، خالي من الصراعات لا تتلاعب به الشركات المتعددة الجنسيات وتتحكم بها النخب الحاكمة (POWER ELITE)، حيث سيتعين على قادة العالم أحتواء التنديدات الشعبية المتزايدة من خلال الحوار وتلبية متطلبات الشعوب وتطلعاتهم نحو الامن وألاستقرار.

تزايدت بشكل كبير مخاوف شعوب العالم مؤخراً وأصبح هناك اعتقاد شائع في جميع أنحاء العالم بأن مفاهيم الديمقراطية ومكوناتها المبدئية، قد تعرضت لتحديات خطيرة وأنتهاكات لا تحمد عقباها، وأصبح هناك حاجة ماسة وضرورية لمراجعة جادة للقيم الديمقراطية والعمل على تصحيح عيوبها التي ستؤدي إلى إحداث تغييرات أيجابية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جميع أنحاء العالم ، لن تقف غالبية الشعوب مكتوفة الأيدي بينما يتم الاعتداء على القيم والمفاهيم الديمقراطية في معقلها بعد ما جرى من أقتحام لانصار الرئيس السابق ترامب لمبنى البرلمان الامريكي.

نأمل أن تصبح الانتخابات الفلسطينية والإسرائيلية المقبلة بصفتهما كيانان ديمقراطيان، مثالاً يحتذى به عن الديمقراطية، وأن تشكل فرصة جديدة لحكومات العالم بالحذو حذوهم بالمسار الديمقراطي كنهج راسخ ومتبع في العملية السياسية لدولهم، بالتزامن مع تولي أدارة جديدة ديمقراطية قيادة الولايات المتحدة لاربع سنوات مقبلة، ومن المتوقع أن تقوم أدارة الرئيس بايدن بتمهيد الطريق أمام عملية السلام دون تغيير دعمها السافر لاسرائيل، وتضع تصورات عملية وبراغماتية لمحاولة حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي طال أمده عقود من الزمن.

بالتأكيد سيكون هناك رؤية أوضح خلال الأشهر القادمة لسيناريوهات التي ستطراء على مسار العمل السياسي نحو تحقيق السلام والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم بأسره إلى حد ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق