قوية أنت يا عزيزتي .. جديرة بكل ما بان لك من أحاسيس ثم ما أضمرت بعد ذلك من مشاعر تناسب هذه القوة وتلائم كل آثارها التي ملأت شواطئك .. وشكلت تضاريسها الوعرة .. فلم يعد هنالك رمال سترسم خطو ذكريات جديدة لتمسح ما سبقها من خطوات.. وقد حال بينهما البعد فصارتا كلتاهما من المغرقين ..
قتل الإنسان ما أكفره .. يا عزيزتي .. عندما يفقد صوابه .. يملؤه اللؤم طالما يمتلك القدرة .. ويردعه الخوف طالما يسحقه الضعف .. لكنه في الحالتين قادر على سوق اللوم وصياغة العتب وصناعة كل المبررات ليخفي ما ظهر من لؤمه أو خوفه على حدٍّ سواء .. ليظهر بصورته التي رسمها في مخيلته مزدهٍ بحماسته الشديدة وتجهّمه المقيت ووعيده الهادر سواءً كان بمعنى أو دون معنى .. لعلمه المؤكد بنوع الخانة التي ينتمي إليها والشعور الحقيقي الذي يعتريه ..
مساكين نحن يا عزيزتي في هذه الحياة القاسية التي تضحك علينا وهي ترمقنا بعينها الساخرة .. نطارد الوهم الذي نصبو إليه ونفرح بتوهم حصولنا عليه.. وكيف نبتسم عندما نقهر المستحيل ونحقق الأحلام ثم ندرك عابسين بعد مرور ما نسميه الزمن أن دوام الحال من المحال .. وأن الزمن في قاموس الحياة ليس له تعريف سوى أنه كاشف الحقيقة المرة .. لذلك نحن مجرد مساكين في عالم النسيان يا عزيزتي ..
ثم أي قوة تدعين .. والمغلوب مولع بتقليد الغالب .. والغالب في قصتنا مغلوب .. والمغلوب هو الغالب .. فمن فينا سيقلد من .. طالما كنا وصرنا متشابهين في كل شيء منذ البداية .. لقد قضينا سويّاً على مبدأ الأفضلية .. ونزعنا صفة الخير والشر عن كل ما دار بيننا من حياة .. فلا تعتَدّي بما وصلت إليه .. أو وصلَ إليك على الغالب ..
أعترف أننا قد وثقنا بالحماسة الجاهلة .. فنحن عرب يا عزيزتي .. وطالما سلم العرب زمامهم للمتحمسين المندفعين الرعناء .. ثم أصابتهم صدمة الهاوية بعد مرور كاشف الحقيقة المرة وانقشاع الضباب الذي كان يحوم حول قمّةٍ مزعومةٍ بناها الخيال .. أنهم كانوا مجرد هواةٍ متوهمين .. وشعراء مصابين بالعاطفة المندفعة .. فلم يكونوا من أهل التخطيط ولا أصحاب تعقّل ولا دراية ولا تبصّر بسنن الحياة المتكررة .. فالعرب كما وصفهم أعداؤهم بأنهم لا يقرؤون ولا يفهمون ولا يتذكرون .. لكنهم يُغلبون فيصدمون فيتوقفون للمراجعة .. ثم يُقلّدون ما سهل عليهم تقليده ولو كان مجرد فضلاتٍ جاد بها الغالب مجاناً .. فلا تدعي القوة يا عزيزتي وأنت في أسوأ حالات ضعفك .. وأفضل حالات إنكارك ..
ولا تتعجلي ادعاء ما لست عليه .. لست بحاجة لإثبات أي شيء يا عزيزتي ..فالعجلة السريعة تسحق كل من يقف في طريقها أو يتباطؤ في تفاديها .. إلا إذا أراد أن يكون حجر عثرة يزعزع كيانها ويهز استقرارها ويخلخل توازنها .. عالماً بأنها لن تُقلب العربة لكنه آمل بأن يمتليء الطريق بالعثرات ..
وقد علمت منذ البداية أنك عثرة من عثرات طريقي .. فاحترمت قوتك .. ولم أستطع منع نفسي من تفادي وجودك المغري أثناء رحلتي .. يا عزيزتي
أعلم أنك ستضحكين على هذا التناقض الغريب .. وتتأسفين بلا أسف على مفرداتي التائهة .. لكنه زمن التناقضات الذي لا يعرف فيه العقل تمييز ما يحصل بالضبط .. فبأي عينٍ تراقب آمال التفائل ضعف الخيط الرفيع للحق القوي .. وهي تتأمّل مبتسمة وحشيّة شؤم الحبل الغليظ للباطل الضعيف المؤسس للواقع المؤلم ..
وكيف تفسّر ُ حال السوطِ المضطرب في تمييزه إن كان أداة قوة الجلاد أم أنه وسام شرف متدَلٍّ على ظهر الضحية الممزق والصامت عناداً .. ليجلس المتفرجون مبهتون .. مندهشون من تناقض صخب الصراخ الذي يملأ سماء الكون .. إن كان ما يسمعوه مجرد قهقهة الظلم أم ضحك البكاء المتمرد ..
فما عاد في الدنيا بكاءٌ أو أنين في حضرة تناقض القوى هذا إلا ذلك الصادر عن صرير مقاعدهم المهترئة من طول القعود وبرودة الخوف المتلفّع بالكسل .. أيتها القوية .. يا عزيزتي
# بقلمي
# رياض الصالح